الحبيب الأسود يكتب:
تقاسم المناصب في ليبيا مخطط للحفاظ على غنائم المتنفّذين
عادة ما يسعى المنقسمون إلى الاتحاد، لكن أن يسعى المتّحدون إلى الانقسام فذلك ما رأيناه في العراق بعد غزوه في العام 2003 ونراه حاليا في ليبيا كنتيجة لما حدث في 2011 من تدخل خارجي لدعم متمردين في الداخل.
بقطع النظر عما إذا كانت ثورة للتغيير السياسي أو انتفاضة شعبية لأسباب اجتماعية أو مؤامرة أجنبية للإطاحة بنظام مشاغب وتمكين الإسلام السياسي من الحكم، فإن الأخطر هو تلاعب النخب السياسية الجديدة بوحدة ليبيا والعودة بها إلى ما قبل 1951 لحسابات ليست جهوية أو قبلية، ولكن لغايات سياسية يقف وراءها أصحاب المصالح لتقسيم الثروة والنفوذ.
وبينما يجمع أغلب الليبيين على ضرورة تحصين ليبيا الواحدة الموحدة يخرج عليهم من يسعى لإعادة العمل بليبيا المتحدة. ورغم أن النزعات الفيدرالية ظهرت منذ 2011 إلا أن تكريسها كأمر واقع بدأ مع انقلاب الميليشيات على نتائج انتخابات 2014 عبر عملية “فجر ليبيا” بدفع من جماعة الإخوان كرد على هزيمتها في صناديق الاقتراع لتسيطر على العاصمة.
اتجه البرلمان للانعقاد في طبرق بسبب الحرب التي كانت تدور في بنغازي مدينة المقر وفق الاعلان الدستوري. وشُكّلت حكومة كانت تشرف على إدارة المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش بعد تحريرها من الميليشيات والجماعات الإرهابية. وساعد اتفاق الصخيرات 2015 على تكريس التجزئة لأنه جاء وفق لعبة خارجية لإعادة تدوير الإخوان.
ومع أن الجيش بقيادة المشير خليفة حفتر جمع عسكريين من كل مناطق البلاد الرافضة لسلطة الإخوان المفروضة بشرعية دولية مهترئة، لكن التيار الإخواني وحلفاءه في المنطقة والعالم لعبوا على أوتار الجهوية واعتبروا أن ذلك الجيش هو جيش برقة. وعندما وصلت قواته إلى غرب البلاد وكادت تدخل قلب طرابلس، كانت هناك فقط كلمة واحدة يراد لها أن تسود وهي أن الإقليم الشرقي يغزو الإقليم الغربي.
ساعدت أطماع السياسيين في الترويج لفكرة الانقسام عندما تحول مجلس الدولة الخاضع للإخوان إلى مؤسسة تشريعية تنطق باسم المنطقة الغربية رغم أن مهمته الأصلية استشارية بالأساس. وساعده التصدع الذي ضرب مجلس النواب المنتخب لأسباب عقائدية وجهوية في فرض نفسه كشريك في القرار التشريعي والسياسي وقابلته رغبات في تقاسم المصالح من قبل تيار عقيلة صالح في الشرق.
كلا الطرفين يريد الإبقاء على امتيازات السلطة والنفوذ فخاضا معا مفاوضات تقسيم المناصب السيادية. وساهمت البعثة الأممية في ترجيح هذا المخطط، لكن الدور الأصلي كان لجماعة لإخوان التي استطاعت بغطاء رعاتها الإقليميين والدوليين وبقدرة عناصرها على الاختراق أن تفرض رؤيتها لشكل النظام السياسي انطلاقا من قناعتها بأنها لا تشكل حضورا مهما في برقة وفزان وأنها لن تصل إلى حكم ليبيا إلا من خلال تقاسم السلطة وفق التقسيم الجغرافي.
لقد كان عقيلة صالح المبادر بطرح فكرة توزيع الثروة والمناصب وفق دستور 1951 وليس وفق ما ورد في تعديلات 1963، فالنزعة القبلية لرئيس مجلس النواب كانت مسيطرة إضافة إلى لعبة المصالح الإقليمية نظرا للتناقض الصارخ بين داعمي سلطات الشرق والمدافعين عن الجيش الوطني وبين داعمي سلطات الغرب والراعين لقوى الإسلام السياسي، في حين لم يستمع أي كان إلى الشعب الليبي وتم تحييده عن أي قرار.
كان اتفاق بوزنيقة في المغرب لتوزيع المسؤوليات الكبرى في المؤسسات السياسية لعبة إخوانية بالأساس. وبدهائها المعهود عرفت الجماعة كيف تعطي لإقليمي برقة وفزان مناصب لا صلاحيات لأصحابها خارج سيطرة إقليم طرابلس باعتباره الأكثر تمثيلية في كل مجلس لاتخاذ القرار نظرا إلى أن الإخوان يعرفون كيف يدفعون بأنصارهم أو بالمتعاطفين معهم أو بمن يسهل ابتزازهم إلى تلك المناصب.
عندما تم الإعلان عن خطة ستيفاني وليامز لاختيار سلطات تنفيذية جديدة لتوحيد البلاد على أنقاض سلطات طرابلس وبنغازي، كان لا بد من تقديم ترضيات لإقناع أطراف النزاع. ومن جديد تدخل الإخوان بحساب النفوذ المناقض لحقيقة التمثيل الشعبي في تحديد الصلاحيات ليكون رئيس الحكومة من إقليم طرابلس بصلاحيات واسعة، ورئيس المجلس الرئاسي من برقة بصلاحيات شرفية مرتبطة بإجماع أعضاء المجلس الرئيس ونائبيه عن طرابلس وفزان.
الآن وبعد انتخاب السلطات التنفيذية الجديدة ستطل قضايا أخرى برأسها منها العمل على تكريس مبدأ الانقسام في الدستور الجديد وفتح المجال أمام كل إقليم ليقرر صلاحياته وفق مصالحه بما في ذلك العلاقات الخارجية، وسيضغط الإخوان من موقع سيطرتهم على القرار السياسي في غرب البلاد للإبقاء على الميليشيات التي تحمي ظهورهم وعلى التدخل التركي الذي يرونه ضامنا لتحصينهم من الغضب الشعبي ضد مشروعهم وجرائمهم في حق الشعب الليبي.
عقيلة صالح يرفض توحيد البرلمان حتى لا يتم العصف بمركزه كرئيس له بعد أن فشل في الوصول إلى رئاسة المجلس الرئاسي، لأن التوحيد يعني المجيء برئيس من إقليم فزان لإتمام خطة توزيع الرئاسات بين الأقاليم الثلاثة. ففي حالة عدم توحيد البرلمان فإن ذلك يعني أنه لن يستطيع منح الثقة للحكومة، أي لن يتحقق الشرط الذي وضعته حكومة عبدالله الثني لحل نفسها وتسليم مهامها لحكومة الوحدة الوطنية.
كما أن أي سلطات ستعمل انطلاقا من طرابلس ستجد نفسها أمام ما حصل لحكومة السراج من سيطرة للميليشيات وتدخل خارجي في توجيه دفة الأمور بما قد يعيد الأزمة إلى مربع العنف، خصوصا وأن النظام التركي لا يزال يعمل على عرقلة تنفيذ الاتفاق العسكري ويحاول تجيير الاتفاق السياسي لمصلحته لا لمصلحة ليبيا التي يعتبرها مجرد غنيمة من مخلفات عاصفة الربيع العربي كما فعل في شمال غرب سوريا.
لم تتشكل ملامح ليبيا الحديثة إلا خلال النصف الثاني من القرن العشرين سواء عند تشكيل النظام الفيدرالي عبر دستور المملكة الليبية المتحدة في ديسمبر 1951 والذي ينص على “أن ليبيا دولة حرة مستقلة ذات سيادة لا يجوز النزول عن سيادتها ولا عن أي جزء من أراضيها” وهي “من ولايات برقة وطرابلس الغرب وفزان”، أو عندما أجريت تعديلات سنة 1963 لتلغى الفيدرالية ونظام الأقاليم، ويعلن عن قيام المملكة الليبية كوحدة واحدة غير قابلة للانقسام، وهو ما حافظ عليه نظام القذافي بتكريس مركزية الدولة إلى أن جاءت أحداث فبراير 2011 التي أحيت نزعات الانقسام لأسباب تتعلق بتوزيع الثروة وفق مصادر إنتاجها وكذلك بالحقوق الثقافية للأقليات.
قبل 1951 كانت القوى الاستعمارية وراء توحيد البلاد، فإيطاليا هي التي أخرجت اسم ليبيا من كتب التاريخ القديم لتطلقه على مستعمراتها في شمال أفريقيا، وهو اسم أطلقه الإغريق على مناطق غرب النيل وصولا إلى المحيط الأطلسي. وعندما انهزمت في الحرب العالمية الثانية تدخلت بريطانيا في برقة وفرنسا في فزان وظهر مشروع اتفاق سري بين وزير خارجية بريطانيا أرنست بيفن ووزير خارجية إيطاليا كارلو سفورزا.
وتم الاتفاق على أن تحصل ليبيا على استقلالها بعد عشر سنوات على أن توضع أقاليمها الثلاثة خلال هذه الفترة تحت وصاية دولية، حيث تتولى بريطانيا الوصاية على برقة وتتولى إيطاليا بموجبها إدارة طرابلس وتتولى فرنسا إدارة فزان.
المشروع قُدّم إلى الأمم المتحدة للتصويت عليه أمام الجمعية العامة في 17 مايو 1949. ولتمريره كان يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين وعددهم 58 دولة. ونجح أحد أعضاء الوفد الليبي في كسب تأييد ممثل دولة هايتي لدى الأمم المتحدة وكان صوته هو المرجح الذي أدى إلى سقوط المشروع. وفي 21 نوفمبر 1949 تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا اقترحته وفود الهند والعراق وباكستان والولايات المتحدة ينص أن ليبيا يجب أن تصبح مستقلة قبل 1 يناير 1952. فصوّت لصالح القرار 48 دولة وعارضته إثيوبيا وغابت تسع دول منها فرنسا وخمس دول شيوعية.