د. عيدروس النقيب يكتب:

عقد على ثورات “الربيع العربي”1-4

مع اقتراب نهاية العشرية الأولى وبداية العشرية الثانية من هذا القرن، اندلعت في عدد من عواصم الجمهوريات العربية، الأحداث والاضطرابات الاجتماعية المليوينة التي عرفت في ما بعد بـ”ثورات الربيع العربي” استدعاءً لما جرى ذات ربيع في العاصمة التشيكوسلوفاكية (براغ) والذي عرف حينها، وحتى اليوم بـ”ربيع براغ”، وتمثل في أعمال انتفاضة شعبية احتجاجية واسعة على نظام الحزب الشيوعي الموالي للاتحاد السوفييتي، والتي تم إخمادها بتدخل القوات العسكرية السوفييتية تحت علم “حلف وارسو” وهو الحلف الذي نشأ بمقابل حلف شمال الأطلسي، وهذا ليس موضوع حديثنا.
سيكون من غير الإنصاف تناول ذلك الحدث المزلزل الذي شهدته عدد من الجمهوريات العربية، من منطلق “معَ بالمطلق أو ضد بالمطلق”، فهذه الظاهرة ليست عملاً شيطانيا كما يصورها البعض، ولا هو عملا ملائكيا كما يدعي أنصاره والقائمين عليه.
وبمعنى آخر إن مناقشة ثورات الربيع العربي، من منطلق أنها كانت باطلاً مطلقاً ومؤامرة أجنبية أو حقا لم تشبه شائبة، لا يمت للبحث العلمي والتقييم الموضوعي بصلة، ومن هنا تأتي أهمية التوقف عند جملة من الحيثيات المهمة المتصلة بالبيئة السياسية واللحظة الزمنية والتاريخية التي اندلعت فيها تلك الثورات، والتي تتجسد في ملامح الشيخوخة السياسية ، بل والجسدية لرموز الأنظمة العربية التي اندلعت الثورات احتجاجا على سياساتها ومطالبةً بتغيير منهاجيتها وأسلوب إدارتها للبلدان التي أشعل أهلها تلك الثورات، وأهم هذه الحيثيات:
1. جميع البلدان العربية التي اندلعت فيها تلك الثورات كانت ذات أنظمة جمهورية بلغ عمر بعضها الخمسة والستة عقود، باستثناء أحداث البحرين التي لا يمكن وصفها بأنها ترتقي إلى مستوى الثورة، وكان يقف وراءها عدة عوامل أخرى ليس أقلها شأنا البعد الطائفي.
2. جميع الجمهوريات العربية التي شهدت الثورات كان يحكمها رؤساء أمضوا عقوداً طويلة في الحكم حتى بلغوا من العمر عتيار وبدأت الاستعداد لتوريث الحكم للجيل الثاني البيوت الحاكمة.
3. وبمعنى آخر ونحن نتحدث عن التوريث فكل البلدان التي شهدت تلك الثورات كان حكامها الجمهوريون يتجهون لتأهيل ابنائهم لوراثة الآباء، “بعد أن يقضي الله أمراً كان مفعولا”، وقد بدأت التجربة في سوريا واستعد البقية لأخذ القدوة منها، وهو ما كان سيعني انتقال الأنظمة الجمهورية إلى جمهوريات وراثية.
4. وبالرغم من أن الحياة المعيشية والاقتصادية في هذه البلدان لم تكن مثالية، في العموم منذ نشأة تلك الأنظمة، فإنه ومع مطلع القرن الجديد وانتهاء العقد الأول منه كانت الحياة الاقتصادية والمعيشية في تلك البلدان قد بلغت من التدهور ما يقربها من الانهيار.
5. وفي بعض هذه البلدان كان الحكام وأعوانهم يدخلون في عالم الأثرياء والمليارديرات على مستوى العالم، في حين تتسع رقعة الفقر والبطالة والمجاعة، وتعجز البلاد عن علاج مريض الفشل الكلوي أو السرطانات الموضعية، مع ازدياد حالات الانتحار بسبب الفقر والعجز عن إعالة عائلة من أربعة أفراد، ما يعني اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء باتجاه ازدياد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا، ما يعني أن الوضع أصبح قابلاً للانفجار في أي لحظة وهو ما حصل في العام 2011م
6. وتزامناً مع كل هذا ازداد الفساد الاقتصادي والمعيشي والخدمة والأخلاقي والتربوية والتعليمي استفحالاً في معظم تلك البلدان حتى غدا الفساد مادة خصبة للتندر الشعبي والنكتة السياسية وحتى بعض الأعمال الفنية والأدبية (التي لم يكن ممكنا لها أن تتجاوز المسموح) كما في مسرحية “الزعيم” للفنان الكبير عادل إمام، و”طباخ الرئيس” للفنان خالد زكي ومسلسل “الولادة من الخاصرة” وأغنية خذوا المناصب والمكاسب بس خلوا لي الوطن، والأعمال امتعدد للشاعر المرحوم أحمد مطر وغيرها عشرات الأمثلة.
ارتبطت جذور ثورات الربيع العربي بظروف داخلية تتباين في خصائصها وظروفها الداخلية من بلد إلى أخرى، لكنها في عمومها مثلت رفضاً شعبياً ساخطاً، عفويا في الغالب الأعم،  للسياسات القائمة في بلدان تلك الثورات،السياسات التي كانت تسير في وادي بينما حياة الناس ومعاناتهم وآلامهم وأحلامهم تمضي في وادي مغاير ومعاكس لتلك السياسات.
ففي جنوب اليمن التي يمكن اعتبارها المنبت الأول لتجربة المعارضة السلمية (وهي التجربة التي تعرضت للتجاهل والتعتيم السياسيين والإعلاميين) كان التوجه نحو رفض سياسات الإقصاء والتهميش والقمع والتمييز ومعها سياسات السلب والنهب التي اتبعها النظام السياسي بعد حرب اجتياح الجنوب في العام 1994م، وقد تمثلت ثورة الجنوب في حركة احتجاجية سلمية بدأها المتقاعدون العسكريون، الذين أخرجوا عنوةً من أعمالهم لا لشيء إلا لأنهم محسوبون على الجيش الجنوبي المهزوم في حرب الاجتياح والغزو، في دولة يفترض أنها لأبناء الجنوب والشمال على السواء كما كان يدعي الحكام، وقد امتدت الانتفاضة لتشمل كل الفئات الشعبية حتى إن العسكريين الذين دشنوا الانتفاضة تحولوا إلى أقلية وانصهروا في إطار الفعاليات المليونية لتلك الانتفاضة السلمية العارمة.
وفي تونس التي تمثلت شرارتها الأولى في إحراق الشاب محمد البوعزيزي نفسه بعد قيام إحدى مجندات الشرطة بمصادرة عربيته التي كان يبيع عليها بعض الخضار والفواكه نظرا لعدم تمكنه من الحصول على العمل، بدأت الثورة بحركة التضامن مع هذا الشاب ثم اتسعت لتشمل كل فئات الشعب حتى اختفى موضوع بو عزيزي من واجهة الأحداث، وتحولت الثورة من حالة تضامنية إلى المطالبة بــ”إسقاط النظام”.
وفي مصر كما في سوريا واليمن وليبيا كانت المطالب الشعبية تتلخص في تغيير النظام السياسي من خلال توسيع دائرة الحريات العامة وتغيير بعض القوانين، ومحاربة الفساد ورفض التمديد و التوريث.
وهكذا فإن الدوافع والأسباب قد تتباين أو تتدرج في التباين لكن العنصر الرئيسي الذي يجمع بين هذه الثورات هو فشل النظام السياسي (الذي يفترض أنه جمهوري)، والذي بدأ في التحول إلى جمهوريات وراثية، واتساع الهوة بين النظام والمجتمع وذهاب البلاد باتجاه الانفجار الاجتماعي، الذي كان لا بد أن يحصل وقد حصل
هل كانت الثورات عملاً شيطانياً؟؟
هل كانت الثورات عملاً ملائكياً؟؟
ذلك ما سنتناوله عنده في وقفة لاحقة.