د. ساسين عساف يكتب:

توصيفات واقع سياسي مأزوم في لبنان

من وقائع المرحلة أنّ لبنان هو في عين الصراع الجيواستراتيجي الدائر في المنطقة بين القوى الدولية والإقليمية، فانقسمت قواه السياسية وتوزّعت على محوري هذا الصراع. نجحت إيران في بسط نفوذها على مفاصل أساسية من سياسات الحكم القائم في لبنان، خصوصاً سياساته الخارجية. الإدارة الأميركية تسعى، من ضمن سياستها في فرض الحصار على إيران، إلى إنهاء النفوذ الإيراني فتحوّل لبنان إلى ساحة لتصفية الحسابات بين الطرفين وحلفائهما، وأصبح مصيره في يد من ينجح في رسم خرائط النفوذ في المنطقة.

بين محور تعاظمت نقاط قوّته هو محور المقاومة، ومحور يحاول استرجاع نقاط قوّة متراجعة، وفي ضوء السياسة الأميركية المتشدّدة إزاء إيران، عادت بعض القوى تعوّل على إمكان الحدّ من هذا التعاظم كي تستقيم المعادلة الداخلية فتتهيّأ الظروف بدفع خارجي (فرنسي) للوصول إلى تسوية جديدة، حدّها الأدنى إنعاش النظام بتنفيذ بنود من وثيقة الوفاق الوطني: اللّامركزية الإدارية الموسّعة، وضع قانون إنتخابات نيابية خارج القيد الطائفي متزامن وإنشاء مجلس للشيوخ مع الإحتفاظ بالمناصفة في المجلسين قاعدة تمثيل الطوائف، تشكيل الهيئة الوطنية لتجاوز الطائفية، وحدّها الأقصى تعديل دستوري إمّا لجمهورية ثالثة عمادها المثالثة وإمّا لجمهورية إتّحادية عمادها مجلس رئاسي، حيث يسقط كلّ كلام على دولة مدنية بسيطة لأنّ المثالثة كما المجلس الرئاسي هما من صيغ الدول المركّبة.

هنا الواقع اللبناني يشهد أعلى درجات التأزّم السياسي، فمن اللبنانيين من لا يرى في أيّ من هذه العناوين إمكاناً لعقد تسوية ما فيطالب بعقد مؤتمر دولي ترعاه الأمم المتحدة لحماية الدولة اللبنانية من الإنهيار، ومنهم من لا يجد في تدويل الأزمة سوى مزيد من التعقيد. هذا التناقض الشديد بين وجهتي نظر كلّ من هذا الفريق وذاك لا ينبئ بإمكان التوصّل إلى تفاهمات ممكنة ومرضية، زد أنّ الحوار بشأنها معطّل وجسور التواصل مفقودة، ويبدو أن الجميع حدّدوا وجهات سيرهم وأحرقوا المراكب!

جاءتهم المبادرة الفرنسية فمنهم من تلقّفها بمنهج الإستيعاب لا التصادم محتفظاً بما له عليها من ملاحظات لانتداب يأتيها بحلّة جديدة، ومنهم من وجد فيها محاولة إنعاش للإهتمام الدولي بلبنان بعد أن فشلت سياسته الخارجية في الحفاظ على صداقاته الدولية ما كان له أن يعيد في رأيهم قدراً من التوازن بين القوى. ولكن الإنشطار الحاد في ما بينها منعها من تحقيق إنجاز أوّلي يقتصر على تشكيل حكومة مهمّة لفترة زمنية محدّدة ما يعني أنّ الصراع على تحديد موقع لبنان الإقليمي والدولي ما زال على خطّ التوتّر العالي، وهو يتجاوز بأشواط عدد الوزراء ومواصفاتهم و"الأثلاث" الضامنة أو المعطّلة أو الحاكمة في أزمنة الفراغ الدستوري.. المنتظر...

هذا الصراع الحقيقي يتمظهر في الواقع السياسي اللبناني بأشكال مختلفة تنطوي على أسباب نزاعات مستمرّة، نتوقّف عند ما يتّصل منها بممارسة معظم السياسيين اللبنانيين الحكم والسلطة وإدارة شؤون الدولة والناس:

  • ممارسات تخالف الدستور، والقرارات الأساسية تطبخ خارج الأطر والمؤسسات الدستورية، تنازع صلاحيات وتثبيت أعراف تلغي مواد دستورية ميثاقية.
  • إدارة الشؤون العامة بعقل تسلّطي إستئثاري مصلحي خاص فتتفاقم ظاهرة الفساد والإفساد في شتّى مفاصل الإدارات والمؤسسات العامة.
  • إستخدام القوات المسلّحة والأجهزة الأمنية في قمع الحراكات الشعبية.
  • التعدّي على استقلالية القضاء وعدالة أحكامه.
  • تقاسم المغانم والغنائم والأسلاب وتأمين سبل الرفاه المفرط، وتكديس المال المنهوب وتهريبه إلى المصارف الأجنبية، أمّا أمن المجتمع الغذائي والصحي والتعليمي والمعيشي فهو خارج جدول أعمال السياسيين وإهتماماتهم.
  • سحق الفقراء سمة من سمات أفعالهم الحقيرة كتسليم رقاب الفقراء لحيتان مال لا تشبع بدءاً بتجّار محتكرين، هم أقرب إلى اللصوصية منهم إلى تجارات الربح الحلال، وانتهاء بمصارف نهّابة، هي أقرب إلى حوانيت الرّبا منها إلى مؤسسات تنمية وخدمة إقتصاد وربح مشروع (سأل الرئيس ريغان الأم تريزا: كيف لكم إشباع الفقراء؟ فابتسمت له وقالت: قد نستطيع إشباع الفقراء ولكنّنا لا نستطيع إشباع الأغنياء.)
  • تشكيل ائتلافات مصلحية تختبئ في ظلّها كلّ العصابات اللّاعبة على وتر العصبيات، تجمع بينها شهوة السلطة والمال وتفرّق بينها وسائل النهب، ومنها السلبطة على وزارات تبيض ذهباً.
  • عدم إقرار أيّ سياسي (أو مستشار) أنّه ليس دائماً على حقّ خصوصاً في فهم المسائل الدستورية وتطبيقاتها (الإعتراف بالخطأ ليس اعترافاً بغباء بل نعمة يفتقدها الأغبياء)
  • فقدان الضمائر الموجعة، والتاريخ يعلّم أن فقدان الضمائر الموجعة لا ينتج سوى الكوارث والنكبات.
  • إصابات بمسّ من جنون العظمة (تعظيم الأنا وجعلها كوكباً في ذاته) يأبى من نالت منهم أن يدمّر نفسه ما لم يدمّر ما حوله، وهذا تصرّف من مسّه هذا المرض عبر التاريخ من زعماء وقادة شعوب.
  • عدم معرفة بالتاريخ ومعرفة التاريخ أساس لمن يمارس العمل السياسي والأكثر أهمّية معرفة تحليله والإفادة من مواعظه فكيف إذا كانت المعرفة منتفية أصلاً؟!
  •  معرفتهم بالتاريخ مقتصرة على نبش قبوره. سياسيون يجهلون أنّ نبش القبور يؤدّي إلى فتح قبور جديدة، وهم غافلون عمّا في ذاكرة الشعوب من حقائق لا تمحى وسرعان ما تخرج إلى الضوء في الأزمنة الصعبة لتعيد إلى كلّ سياسي تركيب صورته النمطية الكامنة في الذاكرة فتعي الشعوب إذذاك مآسيها ربطاً بهذه الصور البشعة.
  • هروبا من كوابيس صورهم البشعة يهرع السياسيون إلى العناوين الكبيرة (في رأسها: الحفاظ على حقوق الطوائف، التوافقية، الدفاع عن الحرّيات وحقوق الإنسان، حماية السيادة، بناء الدولة، الإصلاح ومكافحة الفساد، القضاء المستقلّ، طاولات حوار، مؤتمرات وطنية تأسيسية!.. ويبقى السؤال الكاذب شاغل بال هؤلاء: أين الميثاقية؟ وعندما تتمّ الصفقات وتتعادل الأرباح يختفي السؤال!)
  • إيصال الدولة إلى التفكّك والإنهيار من أهمّ إنجازاتهم العظيمة، فهم أصلاً حوّلوها إلى مجرّد نظام تحاصصي له قدرة عجيبة، بحكم تركيبه الطوائفي، على الجمع بين تناقضاتهم، ثمّ تفجيرها، ثمّ امتصاصها من جديد، فتستمرّ لعبة التخادم بينهم وبينه، تحت عنوان القدرية التوافقية، وحتمية التساكن الجماعاتي، مع الإحتفاظ بالفوارق والتمايزات التاريخية المكتسبة التي تزول بزوال النظام الضامن لها.
  • إنهيار الدولة تعبير عن قضية وجودية كيانية هي قضية وطن صغّرته لا بل قزّمته جماعات سياسية عجزت تماماً عن فهم وجوده وهويّته ودوره، وليس ثمّة واحدة من تلك الجماعات، مهما ادّعت عمق إنتمائها إليه، لم تنزع إلى خارج حدوده إمّا لاستجداء حماية وإمّا لاستجداء قوّة. وهكذا بدت أزماته من صنع بنيه وحلولها من صنع الإرادات الخارجية، فالوطن المستقرّ هو نتيجة تفاهمات إقليمية دولية ما يعني أن الوصايات باتت تلازم وجوده.

التاريخ لا يسوّغ التنبّؤ بالآتي أو التوقّع الحتمي لصيررة الأشياء، فالتاريخ كينونة والكينونة تخضع للصيرورة، والحتميات التاريخية هي نتيجة جدل التناقضات القائمة، وهي لا تستوحى من سياقات التاريخ، فدينامية التاريخ تحوّل دائم، لذلك لا يعيد نفسه بالصورة نفسها. اللبنانيون يعبرون اليوم في زمن التحلّل الشامل وهي حالة عامة تجتاح مساحة الوطن وساكنيه.

بداية الخروج من هذا الزمن التحرّر السريع من التبعية والتصفيق والهتاف للفاشلين والمراهقين والمغامرين والمقامرين والمتاجرين بالطوائف والمحصّنين في قلاع أقاموها من مال المتعبين.

هذه واحدة من بدايات الخلاص، أمّا الثانية فعودة سريعة إلى انتفاضة المواطنين الأنقياء غير الملطّخين بلوثة الفساد السياسي والمالي، وغير الساعين إلى الكراسي الواهية، أصحاب العقول الهادئة والإستجابات الصادقة لإرادة الناس في التغيير النوعي لواقع الحياة السياسية في لبنان عنوانه الوحيد دولة المواطنة بشروطها التامّة.

·       كاتب لبناني وعميد سابق لكلية الآداب والعلوم الانسانية في الجامعة اللبنانية