الحبيب الأسود يكتب:
مسيرة النهضة: رسالة في الوقت الضائع
عندما دعت حركة النهضة أنصارها للتظاهر بوسط العاصمة التونسية تحت شعار “دعم الشرعية” دفعت بنفسها من حيث لا تدري إلى منزلق التشكيك في نفسها وفي كل ما يحيط بها، حيث لا أحد قاد انقلابا أو تنكر لنتائج الانتخابات في البلاد.
كل ما في الأمر وجود بعض الدعوات لحل البرلمان وتنظيم انتخابات مبكرة، وهذا أمر معمول به في أغلب دول العالم، ولا يتناقض مع الديمقراطية ولا يعد خروجا عن الدستور أو القانون بقدر ما هو أحد الخيارات التي تطرح في حال فشل البرلمان في إفراز أغلبية قادرة على الحكم، أو حصول أزمة سياسية خانقة تحتاج إلى مخرج، خصوصا إذا تزامنت مع أزمة اقتصادية واجتماعية حادة كما هو الحال في تونس.
لم نسمع في تونس عن مقترح جدي لحل البرلمان. كل ما في الأمر أن أنفارا معدودين من أنصار الرئيس قيس سعيد هتفوا أمامه بالدعوة إلى ذلك، لكن حركة النهضة التي تعيش رعبا مزمنا من إمكانية إبعادها عن الحكم، ولو عن طريق صندوق الانتخابات، تخشى بالفعل من الاتجاه إلى انتخابات مبكرة. وزعيمها راشد الغنوشي الذي نصّب نفسه رئيسا ثالثا للبلاد، من خلال رئاسته للبرلمان عن طريق تحالف مهتز مع حزب قلب تونس الذي كان يتهمه بالفساد، لا يتخيل نفسه خارج أبهة تلك الرئاسة التي تقف وراء الأزمة الحالية، لاسيما من حيث سعيها إلى منازعة رئيس الدولة صلاحياته الدستورية في تحديد خيارات وملامح السياسة الخارجية للبلاد.
عندما وصلت النهضة إلى الحكم بعد انتخابات أكتوبر 2011 في ظل ظروف كانت تتسم بإقصاء رموز النظام السابق، وبحالة من التشنج الثوري الفوضوي في الداخل وعلى مستوى المنطقة، لم يحاول قادتها التعمق في دراسة الواقع، فالإسلام السياسي كتيار عقائدي لا يمكن أن تكون له الأغلبية المجتمعية، وهو لا يمتلك في أقصى الحالات أكثر من 5 في المئة من المجتمع و8 في المئة من الخزان الانتخابي العام و10 في المئة من المشهد السياسي.
النتائج التي تحققها الحركة في الانتخابات تعود بالأساس إلى عزوف الأغلبية من المسجلين عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع. في الانتخابات البرلمانية الأخيرة أواخر 2019 حصلت النهضة على 561.132 صوتا وائتلاف الكرامة على 169.651 صوتا من بين ثلاثة ملايين ناخب، في حين تجاوز عدد المسجلين سبعة ملايين ناخب.
وإذا اعتبرنا أن الالتزام العقائدي يجعل كل الإسلاميين يتجهون إلى الصناديق فإن كل من لم يصوت للتنظيمين الإخوانيين لا يتبعهما بالضرورة، وليس كل من صوّت لهما هو ملتزم بفكرتهما الحزبية والسياسية، باعتبار أن البعض انتخبهما لأسباب قبلية وجهوية أو لحسابات مصلحية مرتبطة خصوصا بعلاقة النهضة بالحكم.
خلال الأشهر الماضية برزت ظاهرة الحزب الدستوري الحر تتشكل بقوة في البلاد وتتصدر كل استطلاعات الرأي حول نوايا التصويت، بما في ذلك الاستطلاعات السرية التي قامت بها حركة النهضة أو بعض الأطراف الخارجية المتحركة بقوة في البلاد عبر منظمات المجتمع المدني.
وبدل القراءة المتأنية لتلك النتائج كونها تكشف خيبة أمل التونسيين في النخبة السياسية التي تولت الحكم منذ عام 2011 وتصدت له بمنطق الهواية وتغليب المصلحة الغنائمية على المصلحة الوطنية العامة، وبحسابات المحاور الخارجية لا التصالح مع الواقع الداخلي، وبدل التعامل مع حقيقة أن الشعارات الديمقراطية لا تطعم جائعا ولا تكسو عاريا، وأن الحزب الدستوري الحر إنما هو حزب تونسي ضارب في أعماق التاريخ المحلي، ويعكس خصوصيات المجتمع كما أرادت له دولة الاستقلال، وأن أغلب التونسيين غير قابلين لفكرة زراعة الأفكار المستوردة في عقولهم، تحاول النهضة الاستقواء بالشارع بالاعتماد على فكرة الحشد القطيعي التي تتخذ من شعار الدفاع عن الشرعية باعتبارها الغطاء السياسي لمصالح الجماعة دافعا إلى التجييش.
هذا إضافة إلى ما يلزم من بهارات استنفار العواطف مثل الواجب الشرعي ونصرة الإسلام والدفاع عن فلسطين وصولا إلى شعار الاستمرارية على نهج الحركة الوطنية باستحضار مظاهرة الثامن من أبريل 1938 التي كانت تنادي ببرلمان تونسي وحكومة وطنية، والتي نظمها الحزب الحر الدستوري الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة ضد الاستعمار الفرنسي، وهو ما يعني أن الإخوان بين مقاومة احتلال أجنبي والخلاف مع طرف وطني.
حركة النهضة تحاول الاستيلاء على المشتركات الوطنية، وخاصة تلك التي تعترف بها في قرار فكرها ومشروعها، فالديمقراطية ليست من نتاج العقيدة التي تستند إليها، ولا الوحدة الوطنية جزء من فلسفتها الأيديولوجية، ولا الحركة الوطنية من تراثها العقائدي أو العملي، وهي التي تشكك حتى في وطنية زعمائها وقادتها.
وكما حاولت الاستئثار بعد 2011 بقضية صالح بن يوسف الزعيم الذي تصارع مع بورقيبة صراعا على السلطة من داخل البيت الحزبي الدستوري الواحد تحاول هذه المرة السطو على حدث مفصلي في تاريخ المقاومة الوطنية ضد الاستعمار وهو مظاهرة 8 أبريل، فقط لمناكفة عبير موسي وحزبها الدستوري الحر.
وفوق ذلك اتجه الغنوشي إلى تحريض واشنطن على موسي من خلال مقال رأي في صحيفة “يو.أس.أي توداي” كان واضحا أنه موجه بالدرجة الأولى إلى إدارة بايدن والديمقراطيين، محذرا فيه مما سمّاه موجة الشعبوية والرجعية والحنين إلى الدكتاتورية التي تهدد الديمقراطية في تونس.
هذا الوضع أكد مرة أخرى أن الإخوان لا يرون مانعا من الاستقواء بالأجنبي ضد أوطانهم، مقدمين أنفسهم على أنهم رعاة الديمقراطية وسفراء الليبرالية الجديدة التي يبدو أنها ستدفع بتونس إلى مأزق اجتماعي حقيقي خلال المرحلة القادمة، وخاصة من حيث المواجهة مع النقابات، وذلك تحت بند الإصلاحات التي يراد لحكومة هشام المشيشي تنفيذها، لتجاوز الأزمة الاقتصادية التي جاءت كنتيجة لفشل الإسلاميين في الحكم.
خروج النهضة إلى الشارع هو محاولة للرد على قيس سعيد ودعوات أنصاره إلى حل البرلمان، ولكنه كذلك محاولة لاستعراض القوى وترويجها خارجيا في مواجهة الحزب الدستوري الحر وزعيمته موسي. غير أن الواقع يقول إن الآلاف أو عشرات الآلاف من المتظاهرين لا تعطي شرعية حقيقية لصاحبها خصوصا عندما يتم حشدها من قبل حزب حاكم لديه القدرة على استعمال أجهزة الدولة وأموال المتبرعين.
وحتى لو استطاعت النهضة جمع كل من صوتوا لها في الانتخابات الأخيرة، أي أكثر من نصف مليون متظاهر، فإن ذلك لا يعني أكثر من أنها أخرجت أنصارها للدفاع عن مشروعها، لكنه لا يعني أنها تمتلك الشارع أو تتزعم المجتمع، وإنما يعني أنها توجه رسالة إلى من يهمه أمرها، ولكن في الوقت الضائع، وبذلك فهي تمارس حالة استفزاز للأطراف الأخرى لترد عليها، وبشكل قد يكون صادما لها.