الحبيب الأسود يكتب:
جلسة سرت بين الضغط الدولي وحسابات الفاعلين في الداخل
تستعد مدينة سرت الليبية لاحتضان جلسة مجلس النواب لمنح الثقة للحكومة الجديدة برئاسة عبدالحميد الدبيبة، والمنتظر عقدها الاثنين القادم. إلى هنا يبدو الأمر إيجابيا، لكن الخلافات لا تزال قائمة على أكثر من صعيد، فالنواب ليسوا على قلب واحد، وهم يعكسون بصراعاتهم المشهد السياسي والاجتماعي العام في بلد تتجاذبه الإرادات إلى مصالح أصحابها، سواء كانت سياسية أو حزبية أو مناطقية أو قبلية أو مالية أو عقائدية أو حتى مرتبطة بمواقف أمراء الحرب وقادة الميليشيات وبارونات الفساد.
إذا حدث وانعقدت الجلسة فعلا في سرت، فإن ذلك ناتج بالأساس عن الضغوط الأممية والدولية المباشرة، فالولايات المتحدة نزلت بكل قوتها إلى الساحة الليبية، وسفيرها دائم الاتصال بكل الأطراف، والاتحاد الأوروبي منح الضوء الأخضر للألمان للتحرك باسمه، وهم غير منفصلين عن الأميركيين، والمبعوث الأممي لديه الكثير من الأوراق التي يلاعب بها جميع الأطراف الساعية إلى عرقلة خارطة الطريق، والمغرب ومصر يلعبان دورين مهمين في تليين المواقف وتوفير الضمانات لمن يبحث عنها.
إلى حد الآن، هناك نقاط اختلاف واضحة: عقيلة صالح يريد جلسة على مقاس تطلعه إلى الاستمرار في رئاسة مجلس النواب، سواء انعقدت في سرت أو في طبرق، ويشترط ألا يتجاوز جدول أعمالها النظر في منح الثقة للحكومة، وهو بذلك يحاول أن يحافظ على دوره السياسي ووجاهته الاجتماعية بخرق واضح للاتفاق الحاصل في ملتقى تونس، بل وللمبادرة التي كان أطلقها في أبريل 2020 وأيّدها إعلان القاهرة في يونيو، والتي تنص على تقاسم السلطة والثروة بين الأقاليم التاريخية الثلاثة في محاولة بائسة لإعادة الزمن إلى العام 1951 تاريخ تأسيس الدولة الليبية بنظام فيدرالي، تم التخلي عنه خلال التعديلات التي جرت على الدستور في العام 1963، عندما كانت وحدة ليبيا الهمّ الأبرز لنخبها السياسية.
عقيلة صالح، كان له طموح واضح في رئاسة المجلس الرئاسي، وتقدم إلى ملتقى جنيف بدعم واضح من الإخوان، وعبر قائمة ترشح فيها لعضوية المجلس عن المنطقة الغربية الميليشياوي المعروف أسامة الجويلي، ولرئاسة الحكومة وزير الداخلية المفوض فتحي باشاغا، لكن فشل القائمة في الوصول إلى هدفها، جعل صالح يتراجع عن أحد بنود مبادرته، وهو أن تذهب رئاسة مجلس النواب إلى إقليم فزان مقابل ذهاب رئاسة المجلس الرئاسي إلى برقة ورئاسة الحكومة إلى طرابلس.
كان عقيلة صالح يطمح إلى الانتقال من رئاسة البرلمان إلى رئاسة المجلس الرئاسي، لكن هزيمة قائمته في جنيف أدت به إلى التمسك بمنصبه، وبالنسبة إليه القرار واضح: نعم للتداول السلمي على السلطة في طرابلس ولا للتداول على رئاسة البرلمان في طبرق.
الإخوان وحلفاؤهم، يريدون لجلسة البرلمان أن تجري في غدامس، تلك المدينة الهادئة عند المثلث الحدودي مع تونس والجزائر، أما ذهابهم إلى سرت أو طبرق فيعني بالنسبة إليهم الاعتراف بنفوذ الجيش الوطني الذي يناصبونه العداء على المدينتين، ورغم تأكيد اللجنة العسكرية المشتركة على استعداد سرت لاستقبال جلسة منح الثقة للحكومة، إلا أن موقف الإسلاميين ومن يقف معهم على نفس الربوة، غير قابل لأن يتزعزع.
يسعى الإخوان إلى استبعاد عقيلة صالح من رئاسة البرلمان وانتخاب رئيس ونائبين جدد، وكذلك إلى نقل الجلسات إلى المكان الذي يناسب رغبتهم، رغم أن المقر الدستوري لمجلس النواب هو بنغازي، ولم يتم نقله في صيف 2014 إلى طبرق، إلا بسبب الحرب الطاحنة التي كانت تشتعل في عاصمة المنطقة الشرقية.
سيطرة الإخوان على البرلمان تهدف إلى إعادة النظر في عدد من قراراته السابقة التي يرونها معادية لهم أو متعارضة مع مشروعهم السياسي العقائدي، وكذلك إلى تمرير قوانين جديدة بنصاب قانوني كافٍ يستطيعون الوصول إليه ولو بشراء الذمم.
في الوقت ذاته، يحاول كل طرف فاعل الضغط على الدبيبة للحصول على نصيب من السلطة الجديدة، الصراع ليس فقط على الحقائب الوزارية، ولكن على نائبي رئيس الحكومة (أحدهما من برقة والثاني من فزان) وعلى وكلاء الوزراء، وهذا اختصاص حصري للإخوان الذين يسعون إلى التغلغل في الوزارات عبر من يملك الأختام والملفات.
عندما قال الدبيبة إنه تلقى ثلاثة آلاف سيرة ذاتية لمترشحين لحكومته، كان يقلص من العدد الذي ذكره مكتبه وهو عشرة آلاف، غير أن كل هذا العدد يكشف عن حجم التلهّف للسلطة التي يفترض أنها لن تستمر فعلا إلا بضعة أشهر، ويعكس غياب شروط العمل السياسي والحزبي في البلاد مقابل سيطرة الفردانية، في بلد أصبح فيه كرسي الوزارة يعني الثراء والنفوذ وليس تحمل المسؤولية لخدمة المجتمع، وذلك بقناعة الكثير من أبنائه.
في الوقت ذاته، يبدو كل فاعل سياسي مؤثرا وقد تأبط ملفا لمترشح يخصه أمره، ذلك أن المحاصصة هي أساس العملية السياسية في هذه المرحلة، وصراع النواب في جانب كبير منه مرتبط بهذه المسألة، وكذلك الأمر في ما يدور داخل مجلس الدولة الاستشاري ولجنة الحوار السياسي ومجمّع أمراء الحرب.
إذا حصل واتجه أعضاء مجلس النواب إلى سرت الاثنين القادم، فذلك يعني أنه تم الاتفاق بضغط دولي على عدم المساس برئاسة عقيلة، وأكثر الأطراف الجاهزة لتنفيذ الإملاءات الخارجية هي جماعة الإخوان التي تدرك جيدا أن دورها السياسي المزعوم يتجاوز بكثير حجمها الحقيقي في المجتمع.
تحتاج الحكومة الجديدة إلى أصوات ثلثي النواب لكي تحظى بالثقة، على أن يتم ذلك بعد التصويت لفائدة الاتفاق السياسي الذي جاء بها إلى السلطة. ونظرا لأنها تتعارض في جملة من بنودها مع اتفاق الصخيرات المبرم في ديسمبر 2015، فإن مخرجات ملتقى جنيف المنعقد من الأول إلى الخامس من فبراير الماضي، تحتاج إلى إضفاء الشرعية الكاملة عليها من قبل مجلس النواب، وذلك بإدراجها ضمن الإعلان الدستوري للعام 2011، بنسبة الثلثين زائد 1، أي ما يساوي 123 نائبا.
إذا لم يكتمل النصاب في سرت، فالأمر سيعود إلى لجنة الحوار السياسي، بينما سيواصل عقيلة صالح رئاسة البرلمان في طبرق، مقابل برلمان موازٍ في طرابلس، وقد تذهب خارطة الطريق أدراج الرياح، فإلى حد الآن لا يزال هناك في طرابلس من يرغب في بقاء حكومة الوفاق، كما لا يزال هناك في بنغازي من يراهن على بقاء الحكومة المؤقتة، وفوق كل ذلك هناك من لا هدف له إلا عرقلة إجراء الانتخابات في ديسمبر القادم.