مصطفى منيغ يكتب لـ(اليوم الثامن):
المغرب للجزائريين حبيب (8)
اخترتُ منتجع "لامدراغ" لأسباب أربعة منها : نقل إقامتي بعيداً عن صخب العاصمة ، والتخلص من عيون جاحظة لا يود أصحابها مفارقة أماكن أتردد عليها للتمويه لا غير ، وخاصة تلك المقهى الغريبة بروادها المعارضين لنظم بلدانهم ، أعلبهم من تونس وأقلهم من المغرب ، وخليط من الليبيين والسوريين ، المثير للانتباه تلك الحماية البالغة في حقهم ومنها توفرهم على وثائق تبيح لهم الاستقرار في العاصمة كضيوف يتوصلون بإعانات مادية وليسوا كلاجئين سياسيين ، لم يكن يهمنى الأمر أكثر من البحث عن خيط يمهد طريقي لغاية التيقن إن كان لأي من هؤلاء صلة بما يروج عن اختيار السلطات الجزائرية ذوي الحالات المُشابهة لتكليفهم بمهام زرع القلاقل على الجانب المقابل من شريط الحدود بين المغرب والجزائر في نقط معينة تطل على "وجدة" و"السْعِيدِيَة" و"بني دْرَارْ" و"بُوعَرْفَةْ" و"تَنْدْرَارَةْ" و"فِجِيجْ"، إلى أن عثرت على فتاة مغربية من مدينة الدار البيضاء قذفت بها موجة الغضب عن حالة أسرتها الاجتماعية ، لضفة جزائرية حسبتها طوق نجاة ، فإذا بها واقعاً أسود أعادها للغرق في يم كادت تفقد وسطه أغلى ما تملك ، لولا إرادتها التي نبَّهتها لمغربيتها التي لا ترضى بالذلّ ولو نقلها لما حلمت أن تكون سيدة مجتمع مستقرة في بيت مشيَّد على الحلال بالحلال ، تلك الفتاة التي استعادت ثقتها في نفسها وحدثتني بأمر فتح ذهني على بدايةٍ المفروض أن تتحوَّل من الغد الموالي إلى جَمْعِ أحجار من العيار الثقيل لتشييد سد يمنع ما ذهبت زمرة الهواري بومدين لتفجير قنوات ماء حار لم يفطن هؤلاء ورئيسهم أن الضَّرر سيعمّ على الشعب الجزائري بصنيعهم ذاك قبل سواه . ثمة من اتصل بها قصد إقناع ما أمكن من المغاربة للمشاركة في نشاط عالمي ضخم تشرف علية وزارة العمل الجزائرية ، وأعطاها عنوان قسم كائن في مقر الإذاعة والتلفزة الجزائرية ، لتتصل به هناك ، متى أنهت المهمة ، ولها مكافأة ستسعدها حقاً ، بالتأكيد تعرفت على داك المسؤول وأيضا اختصاص القسم المعني ، تمنيتُ لها النجاح في مهمتها وذهبتُ رافضاً صُحبتها لموانع اقتنعت بها حقاً .
السبب الثاني ، الذي جعلني أختار "لامدراغ" ، عائد لميناء صيد لا بأس به قد يسهِّل اللجوء للانسحاب بواسطة قارب من قواربه وفق خطة مسبقة التحضير ، عزمتُ على وضعها (لفائدة تنوُّع بدائل للنجاة جاعلاً كل الاحتمالات واردة) متى توفرت لي معلومات يملك جلها بحارة الميناء ذاته وبعض من رواده .
السبب الثالث ، وجود ملهى ليلي يتوافد للسهر فيه نخبة من علية القوم وسادة نظام يعوّضون تعبهم في تنفيذ أوامر الهواري بومدين ، بالترويح عن أنفسهم بكيفية تنتهي بفقدان عقولهم فلا يميزون إن كان حديثهم خارق لحاجز السرية ، أم مظهر من التعبير على مستوى عملهم الوظيفي للاستفادة من المعاملات الخاصة التي لا تحتاج لشرح كي تُفهم .
السبب الرابع ، لأُقنع مدير الإذاعة والتلفزة أنني منهمك (في عزلة تامة ) على استنباط أفكار صالحة تتمحور حولها برامج توعية ، شديدة القدرة على إقناع المواطنين بأن المستقبل ما يفكر فيه نيابة عنهم ، الزعيم الأوحد والقائد الملهم والحكيم النابغة الهواري بومدين .
... أصبح قرار الاستمرار لا يحتمل التأخير تمشّياً مع تصاعد الاستعدادات المضادة المسخر لها كل الإمكانات المالية والموضوع لإنجاحها أكفأ العناصر التقنية وأكثرهم قابلية لتسريع ما يتصورونه نتائج تبهر العالم بما تقدمه من افتراءات على شكل مُشوق تعكسه وجوه حسناوات ، و يتخلله تمويج ألحان من الروعة بمكان ، في قالب من خشب تعاون في إعداد تصميمه أكثر من مهندس ديكور ، المزخرف بأطياف تخطف البصر ، وما يزيد على ذلك من تنوع خارق للمعتاد ، يُبعد المتفرجين عن الشعور بالملل ، إذ من الصعب مخاطبة عقول العقلاء ، بواسطة أباطيل تتواثب داخل بستان مصطنع ، أزهاره من أوراق ملونة ، وخلفياته طاقات بشرية لا يهمها من لب الموضوع برمّته ، إلا التعويضات الزائدة عن حدِّها بوعود إضافية ترفعهم لتحقيق ما سعوا لتحقيق ولو ربعه منذ استقلال الجزائر إلى تلك اللحظة وسلطة بلدهم تمسح بهم أرضية ما تعلَّموه عن اجتهاد لتصريفه في مكانه المُجمَّل بهيبة الحق، بخِرَقٍ مُغَمَّسة في القَار ليعم السواد المتصاعدة منه رائحة تديم لمن استنشقها ، عاهة الندم وألم الضمير طول العمر .
... خلال جولة بين قاعات التدريب والتسجيل شدت أذني نغمة أغنية مغربية لي معها قصة وموقف ، قادني الصدى لمواجهة مفاجأة ، لم انتبه حتى وجدتُ نفسي غير قادر على الانسحاب إذ لمحتني المغنية المؤدية اللحن التي نسيت نفسها ومَن يعزفون وراءها فاتجهت مسرعة لتعانقني بلهفة وتوشوش في أذني : "انأ هنا اسمي جليلة حافظ ".(يتبع)