د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
الحنين إلى السنين الخوالي
عندما تنطلق بنا الذاكرة في رحلة مجانية وتأخذنا على متنها بلا هوية أو جواز سفر ثم ننطلق ونفوسنا معلقة ببراءة الطفولة والصبا ومحملة بمئات الصور الجميلة المترعة بالشغف والحنين إلى الماضي ونبحث بين ثناياها عن قصص من عالم الأساطير والخرافات تغمرنا السعادة ونضحك من قلوبنا و تأخذنا الذاكرة إلى أماكن ابتعدنا عنها كثيرًا ولكننا لم ننسها.. تشبثت بنا كطفل صغير يخشى الابتعاد عن حضن أمه و نتذكر مدرستنا التي نبدأ يومنا فيها بتمارين الصباح ثم يتفقدنا ذلك المعلم الغليظ الذي لا يعرف وجهه الابتسام وهو دائم التجهم والعبوس ويتفحص وجوهنا ويحركها يمنة ويسرة بسؤال واحد : هل صليت الصبح ..؟!! وقبل أن يجيب أحدنا يصفعه بقوة ظلما وعدوانا لمجرد الاشتباه أنه لم يؤد صلاة الصبح ولو أقسم له بأغلظ الأيمان فهو لا يصدق إلا نفسه ..!!
كان يوم الخميس أسعد أيام الأسبوع حيث يسمح لنا باستعارة القصص المدرسية من مؤلفات كامل كيلاني ومحمد عطيه الابراشي ..كنا نفرح بكتبنا المدرسية ودفاترنا وأقلامنا، وكنا نفرح عندما نتشارك التمر والحلوى الشهية مع رفاق الطفولة وقت الاستراحة الأولى وعندما نؤدي التمارين الرياضية في طابور الصباح!!
نتذكر زخات المطر ونطل برؤوسنا من نوافذ الصف ونستمتع بالشلالات التي تنحدر من رؤوس الجبال وتمر بجوار مدرستنا ويعلو صخب الأطفال ويفقد المدرسون السيطرة عليهم ثم يتركونهم يغادرون المدرسة إلى بيوتهم قبل فيضان الأودية ..لا زلت أتذكر خروجنا ونحن نتسابق تحت زخات المطر وحبات البرد و نتنفس رائحة الأرض والأشجار ... هذا النوع من الذكريات يُحيي ما أماته العمر فينا، ويُحرك ركود مشاعرنا وينعش أرواحنا بأنفاس جديدة تُعيد ترتيب النبض فينا،وهناك نوع آخر من الذكريات يبدو على النقيض تمامًا،فوقعه كالإبر كلما مررت عليها شعرت بالوخز والألم فتجعل منك إنسانًا يحيا على بقايا عمر متهالك،وتشعر كأن روحك ياسمينة لم تجد رعاية فتعرضت للذبول..تُحدق في صورك القديمة وتحتضن السراب فتهب رياح الشجن ويصفعك الوجع بوابلٍ من دموع..لملم شتات روحك ولا تسترق النظر لهذه الزاوية من الذاكرة،وأغلق صندوقها وألق بالمفتاح في بئر تنهيدة عميقة،وأغمض عينيك وامض إلى متسع الحياة الحقيقية،ولا تتشبث بذاكرة مظلمة تُميت الإحساس فيك وتقف عائقًا بينك وبين ثقوب النور الممتدة نحو قلبك،ولا تبك على شيء مضى فلو كان خيرًا لبقي فقد يأخذ الله منك شيئًا ويعوضك بخير منه يكفيك ويُرضيك، ولا تفتش إلا في صناديق الذاكرة التي تجعلك تشهق فرحًا وتقفز سعادة وتحلق عاليا على بساط الذكريات .
د. علوي عمر بن فريد