د. ساسين عساف يكتب:

من تاريخ لبنان إلى لبنان في التاريخ (إشكاليات لا تنتهي)

الباحث في تاريخ لبنان أو الباحث عنه في التاريخ على مدى العصور القديمة والوسيطة والحديثة يجد نفسه أمام كتابات غزيرة يتعذّر عليه إزاءها، مهما اتّسعت آفاق معرفته  بالفارق بين كتابة التاريخ من جهة وقراءته ونقده وتحليله وتفكيكه وتركيبه وربط أحداثه وكشف المسكوت عنه والتدقيق في المروي منه وتبيين الغايات الكامنة وراء سردياته، يتعذّر عليه، أردّد، أن يقارب موضوعه بمنهج علمي وشمولية نظر والإيغال عمقاً في فهم تحوّلاته وثوابته بما يسمح له بادّعاء الوقوع بالوجه الأتمّ على الحقائق والوقائع والوثائق الشاهدة.

من خلال قراءاتي تكوّنت عندي هذه الخلاصات الواردة تباعاً والتي أرى فيها إفادة لمن هم ليسوا من أهل الإختصاص أمثالي وهم مهتمون بالشؤون السياسية والإقتصادية التي بينها والتاريخ واتّجاهاته التي تناولت لبنان مساحات معرفية مشتركة، من هذه الإتّجاهات:

 

  • إتّجاه المدرسة التأريخية القائلة بتاريخ للبنان خاصّ ومميّز في ذاته ومنفصل عن تاريخ محيطه وتحديداً تاريخ "سوريا الطبيعية" أو "بلاد الشام."

هذه المدرسة لها مصادرها ومؤرّخوها الكثر الذين منهم:

"إبن القلاعي" (راهب ماروني فرنسيسكاني) صاحب زجلية مسمّاة "مديحة على الجبل" حيث يقول الموارنة شعب وضعه الله في جبل لبنان ليدافع عن مسيحيي الشرق. هذا الراهب قدّم "تاريخاً لاهوتياً" للموارنة ظلّ راسخاً في أذهانهم عبر الأجيال.

حيدر الشهابي في "الغرر الحسان".

طنوس الشدياق في "أخبار الأعيان في جبل لبنان".

الأب بولس قرألي في "تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني".

أسد رستم في كتابيه: "لبنان في عهد المتصرّفية" و "لبنان في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني".

جواد بولس في كتابيه: "تاريخ مقارن للبنان وسوريا وفلسطين من الأصول حتى اليوم" و"لبنان والبلدان المجاورة" حيث يبرز التمايزات فيما بينها...

كمال الصليبي في "تاريخ لبنان الحديث" وذلك قبل أن يطلّق هذه المدرسة في كتابه "بيت بمنازل كثيرة."

من أبرز رموز هذا الإتّجاه بولس نجيم في "المسألة اللبنانية" 1919 (بالفرنسية) وهي دراسة في الإقتصاد السياسي. كان من دعاة لبنان الكبير منذ العام 1908. مقتفياً آثار تاريخ لبنان تعرّض للأصول التاريخية لسورية ولبنان ودور فخر الدين في تكوين الكيان السياسي اللبناني المتميّز. يؤكّد في مباحثه أن التمايز اللبناني تطوّر ضمن الإطار السوري دينياً وسياسياً واقتصادياً ليتخطّاه إلى تأكيد خصوصيته التي وجد فيها إنجازاً لعبقرية فخر الدين التي أمّنت في رأيه "الإستقلال والإزدهار والوحدة.."

ومن أبرزهم حديثاً الأب بطرس ضو في كتابه تاريخ الموارنة الديني والحضاري والسياسي. (بالفرنسية) حيث يربط بين القومية اللبنانية والكيانية الجغرافية والموارنة.

الأب اليسوعي لامنس هو مؤسّس المدرسة الفينيقية في تاريخ لبنان التي نشطت قبل عهد الانتداب وخلاله (بولس نجيم، شارل قرم، ميشال شيحا) وهو الذي ملأ مجلّة "المشرق" الصادرة عن جامعة القديس يوسف في بيروت بأبحاث دعمت هذه المدرسة التي تركّز على استقلالية المقاطعات اللبنانية عن محيطها العربي والتي أسّست لفكرة "القومية اللبنانية" ولخصوصية الكيانية اللبنانية" وأقامت رابطاً بين خصوصية الكيان الجغرافي وتاريخ الشعب فخلصت إلى أنّ للبنان تاريخاً خاصّاً من التراكم الحضاري والثقافي يميّزه عن محيطه الإقليمي.

الإيديولوجيا الكيانية ترتكز إلى اعتبار لبنان وحدة جغرافية طبيعية محدّدة ومحمية من كلّ الجهات وبخاصة الجبل والبحر ما يؤكّد في زعمها خصوصيّة تاريخه من دون أن تلتفت إلى السهل المنفتح على الداخل العربي والهجرات العربية!!

انّ الكيانيين اللبنانيين الذين ناضلوا في سبيل "لبنان الكبير" واستقلال الدولة اللبنانية بكيانها الجغرافي الراهن بدأوا باحياء تاريخ لبنان المتخيّل وتاريخ لبنان الموضِوعي على حدّ سواء لأنّ المشكلة التي واجهتهم كانت مشكلة الجغرافيا فظنّوا أنّ لبنان هو ثمرة تاريخ وأنّ تاريخه يصنع جغرافيته أو يثبّتها ازاء من كان ينفيها أو ينكر ثباتها. من هنا نشأت الرغبة لديهم في تعظيم هويّة لبنان التاريخية فمنهم من وقع في "المثالية" المغرقة في "أسطرة التاريخ" (mythifier l' histoire)

 

  • لهذا الإتّجاه  إتّجاه يقابله قائل بتاريخ سوريا ولبنان.. ومن أبرز أعلامه البطريرك اسطفان الدويهي في "تاريخ الأزمنة" الذي قرأ فيه تاريخ الموارنة من خلال قراءته لتاريخ جيرانهم في بلاد الشام، نقع فيه على أصول تاريخ الشرق بدءاً بالفتح الإسلامي وانتهاء بمطلع القرن السابع عشر حيث يتناول مصر وفلسطين وسورية والعراق وجبل لبنان مؤرّخاً لأحداث تلك الديار الدينية والسياسية والإجتماعية على مدى أحد عشر قرناً.

أحمد الصفدي الذي كتب تاريخ فخر الدين المعني الثاني وعلاقاته بالأسر الاقطاعية في مختلف أنحاء بلاد الشام وليس في المناطق اللبنانية فقط.

كذلك فعلت تقارير القناصل وكتب الرحّالة الذين لم يتحّدثوا عن المقاطعات اللبنانية بمعزل عن مقاطعات بلاد الشام.

 

  • ثمّة إتّجاه ثالث في التأريخ لا يخالف الإتّجاه السابق إنّما تناول تاريخ لبنان كجزء له خصوصيته في بلاد الشام. من أعلامه: المطران يوسف الدبس، مطران بيروت ومؤسّس مدرسة الحكمة، في كتابيه: "تاريخ سوريا منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا"(8 أجزاء) إختصره إلى "الموجز في تاريخ سوريا"(جزآن) وكتاب:"الجامع المفصّل في تاريخ الموارنة المؤصّل" (في الكتاب الأوّل أراد أن يحدّد موقع سوريا في الدولة العثمانية التي كانت تعمل لإفراغ سوريا ولبنان وفلسطين من أية هوية، وفي الكتاب الثاني أراد أن يحدّد موقع الموارنة في الإطار السوري/الفلسطيني/المصري بين سائر الطوائف) 

جرجي ينّي في "تاريخ سوريا".

الأب لامنس في كتابه المعنون "سوريا" (بالفرنسية) الذي يعتبر أنّ للبنان وضعاً خاصاً في تاريخ سوريا وذلك قبل أن يضع كتابه "تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من آثار" الداعم لإنشاء كيان لبناني مستقلّ عن محيطه بناء على طلب من سلطات الانتداب الفرنسي وحيث يظهر الخصوصية اللبنانية ويطلق فكرة لبنان/الملجأ. (كمال الصليبي كتب دراسة عن لامنس بعنوان: "الوطن الملجأ")

هذا الإتّجاه يتناول خصوصية لبنان داخل بيئته الشامية فهو لا يقع خارج حركة الإتجاهات العامة فيها، تاريخه متفاعل مع تاريخها وتحوّلاتها الأساسية.

 

  • هناك إتّجاه  رابع مثّله زكي النقّاش وعمر فرّوخ  اللذيين كتبا معاً سلسلة تاريخ سورية ولبنان متلازمين بدون إبراز خصوصيات أحدهما. من أبرز أعمال زكي النقاش التاريخية كتابان: " دور العروبة في تراثنا اللبناني  و"أضواء توضيحية على تاريخ المارونية"  ومن أبرز أعمال عمر فرّوخ المقاصدي كتاب "التبشير وسيلة من وسائل الإستعمار."

وجهة نظر مؤرّخي المدرسة القومية، مدرسة لبنان المتّصل تاريخياً وحضارياً بعمقه الشامي/العربي تطرح إشكالية تاريخية/إيديولوجية تتّصل بهويّة لبنان التكوينية السياسية والحضارية من خلال  التصدّي لإيديولوجيا الكيان اللبناني المنفصل عن الداخل السوري العربي، إيديولوجيا التفتيت والتجزئة. وهي التي عملت، ولا تزال تعمل، لتجزئة تاريخ الوطن العربي بخلفية الترويج عمداً لاستقلالية تاريخ كلّ قطر، لا بل، أكثر من ذلك، لاستقلالية تاريخ كلّ مجموعة داخل كلّ قطر. وذلك إسقاطاً لفكرة الوحدة القومية المبنية على أحد عناصرها: وحدة التاريخ.

 

  • بين هذه الإتجاهات لا نسقط إّتجاه الأب لامنس الثنائي/ الضدّي فهو كان مترجّحاً بين الكلام على وحدة سورية وعلى جغرافيا سوريّة واحدة وعلى شعب سوري واحد وبين نقيض هذا الكلام على خصوصيات تسوّغها الحواجز الطبيعية بين سوريا ولبنان.. وهو عندما كان يتكلّم على الفينيقيين فهو لم يكن يربطهم بلبنان فقط بل انّه كان يتكلّم عليهم من حيث انتشارهم في سوريا وفلسطين ولبنان.

إهتم لامنس بتاريخ سوريا وجغرافيتها الطبيعية والتاريخية.. هذا الإهتمام برز في عناوين كتاباته التي منها: "سوريا وأهمية جغرافيتها"، "نبذات عن الجغرافيا السورية"، "المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية"، "سورية عباءة المسيح"، "سورية: ملخّص تاريخي"، "موجز تاريخ سورية ولبنان"، "سورية ورسالتها التاريخية"، "التطوّر التاريخي للجنسية السورية".

هذه الكتابات كان لها اعتبارها في تفكير أنطون سعادة.. كما كان لهذه الكتابات تأثير في تكوين فكرة القومية السورية كان لنقائضها تأثير في تكوين فكرة القومية اللبنانية. إنّ طرح مشروع "سوريا الكبرى بحدودها الطبيعية" أسّس له  لامنس حينما كانت السياسة الفرنسية تخطّط لبناء "دولة سوريا الطبيعية" ثمّ عاد عنه لطرح مشروع بناء "دولة لبنان الكبير" بعد تعديل أجرته وزارة الخارجية الفرنسية على سياستها في المنطقة.

قومية لامنس قامت على الجغرافيا والتاريخ الحضاري وسورية في رأيه لا تنتمي إلى الوطن العربي. أمّا لبنان فكان أكثر تشدّداً في نفي انتمائه إليه.. والقومية العربية لم ير فيها سوى مجمّع عصبيات إسلامية.

 

  • فيليب حتّي في كتابه "لبنان في التاريخ"

كمال الصليبي في كتبه: "بلاد الشام في العصور الإسلامية" و "المؤرّخون الموارنة في العصر الوسيط" و"بيت بمنازل كثيرة". 

محمًد علي مكّي  في كتابه "لبنان من الفتح العربي إلى الفتح الإسلامي"،

هؤلاء الثلاثة يمثلون الإتّجاه التوفيقي بين الإتّجاه الكياني اللبناني الفينيقي/المتوسّطي وبين الإتّجاه اللبناني الشامي/العروبي.

 

 

المحاججة بين هذه الإتّجاهات أثارت إشكالية هويّة لبنان التاريخية التي كانت وما زالت محور خلاف ونزاع بين اللبنانيين. أمّا وقد حسمت دستورياً هويّة لبنان السياسية (لبنان عربيّ الهوية والإنتماء) فالتاريخ لم يعد يشكّل قوّة إسناد في الصراع مجدّداً على الهويّة.

هذا والشعوب تصنع تاريخها وهوياتها ولا تنتمي إليه أو إليها فقط وإلاّ تحوّل الانتماء إلى تاريخ ما قوّة إكراه وتسلّط. إنّ الامتثاليّة لتاريخ ما توقف حركة التاريخ عن تطوّرها، وتعليب التاريخ أو استحضاره بغية استخدامه في الصراع الايديولوجي أو السياسي هو اعتداء عليه فضلاً عن أنّ المحاججة التاريخية لا توصل إلى اليقين المبرم. لذلك،

أرى عدم جواز إقحام التاريخ في مشاكل الحاضر خصوصاً متى كانت مقاربتها مقاربة إيديولوجية/سياسية، فالتاريخ لا تستسيغه الإيديولوجيا. والايديولوجيا تحوّل التاريخ الى إملاء، إلى نصّ املائي مغلق. والتاريخ هو مادة للبحث المفتوح لا الإملاء المقفل.. وهذا هو الفارق بين الباحث والمؤدلج. الباحث يدرس والمؤدلج يملي. الباحث يطرح المقدّمات وصولاً إلى النتائج.. المؤدلج يضع النتائج مسبقاً ثمّ يسعى إلى تأكيدها..

الإيديولوجيا في رأيي تنتمي إلى عالم "اللامعقول التاريخي". وخطورة اعتمادها مدخلاً في التأريخ تكمن في الدعوة إلى الإيغال في الحقائق والتصوّرات الذهنية المنفصلة عن الوقائع بدون التنبّه إلى ما بين الحقائق والوقائع من فروق. إنّ المطلق في الايديولوجيا أو في العقيدة السياسية أو حتى في العقيدة الايمانية الدينية هو ليس ما نعثر عليه في الوقائع. ما نعثر عليه هو نسبي ومنحرف ومشوّه فمن غير الجائز التعامل مع ما نعثر عليه بوصفه حقائق مطلقة. لذلك يصح القول إنّ الايديولوجيا وحدها قد لا تشكّل القاعدة السليمة لتفسير التاريخ، فمن أخطر الأمور أن نتوسّلها كي نصل الى فهم الوقائع التي لا يتيسّر استيعابها إلاّ من خلال آليات التفكيك والتحليل والاستقراء. وهذا هو الفرق بين القراءات الحفرية في الواقع التاريخي والقراءات الإسقاطية عليه.

إنّ التاريخ يقرأ بالوقائع ولا يقرأ بالايديولوجيا.

أخيراً أرى وجوب إعادة النظر في التأريخ اللبناني بعدم سحب صراعات الحاضر على الماضي. وهذا ما يوفّر للكتابة التاريخية مرتكزها العلمي والموضوعي والمجرّد من الهوس أو الهوى والمتفلّت من الأحكام المسبقة المروّجة لهذه الفكرة أو المعادية لتلك. التأريخ المؤدلج مرض أصاب المؤرّخين اللبنانيين منذ قيام الدولة ونشوء الكيان وذلك على قاعدة إنشطارهم الإيديولوجي بين مفتّش لهذا الكيان عن تاريخ خاصّ به أو خصوصية تاريخية تسوّغ قيامه واستمراره ونهائيته مفرداً أو مميّزاً في محيطه أو منقطعاً عنه، وبين مفتّش عن إسناد تاريخي أو مشروعية تاريخية تجيز إلغاءه ودمجه بالكيان القومي الأوسع، سوريا ً كان هذا الكيان أم عربياً. لن يبرأ المؤرّخون اللبنانيون من مرض الإيديولوجيا المتحكّمة بكتابة التاريخ لديهم ما لم يعمدوا إلى انتهاج الأساليب الحديثة في قراءة التاريخ وما وراءه بالاستناد الى منهجيات العلوم الإنسانية المساعدة والقادرة على الايغال بهم من المرويّ الى المكنون.

وأرى كذلك أنّ قراءة تاريخ لبنان السياسي على أساس ديني، إسلامي/مسيحي، أو على أساس مذهبي، درزي/ماروني أو شيعي/سنّي، هي قراءة غير سليمة لأنّ تاريخ لبنان السياسي شهد مواقف سياسية وتكوّنت فيه رؤى وبرامج واتخذت فيه مواقف وقامت فيه تكتلات وأحزاب عقائدية وطنية علمانية ومدنية شارك فيها مواطنون بصفة المواطنة، فتاريخ لبنان ليس تاريخ طوائفه ومذاهبه إنّما تاريخ شعب يتحرّك فوق مساحات واحدة إقتصادية واجتماعية وعمرانية وسلوكية ومعرفية وقيمية ما يثبت أنّ ما يجمع فئاته أكثر بكثير ممّا يفرّق بينهم.. على نقاط الجمع نأمل أن يوضع كتاب تاريخ مدرسي موحّد تفادياً لحروب "الهويات القاتلة"..