د. ساسين عساف يكتب:

عروبة إنسانية أخلاقية مقاومة .. (رشيد سليم الخوري نموذجاً)

الشاعر القروي (رشيد سليم الخوري) من أعلام الأمّة المقيمين في ضميرها والذاكرة.

البعد القومي لديه استأثر باهتمام الدارسين. أمّا البعد الإنساني الأخلاقي المقاوم فلم ينل منهم كاملاً حقّه. أحاول الاقتراب من هذا البعد لاكتشاف مضامينه القيمية التي شدّت البعد القومي إلى مدى إنساني أخلاقي رحيب وصرفته عن العنصريات والهويات المغلقة من دون التخلّي عن "عروبته المقاومة".

إبن الجغرافيا الضيّقة، قرية البربارة، المفتوحة على امتداد الأبيض المتوسّط لم تعزله "عبقرية المكان" عن عمقه السوري/العربي. والتحامه بهذا العمق لم يضعف تواصله بالغرب.

إبن الاستقامة في الدين لم تقف عقيدته الدينية حائلاً دونه وبني قومه العرب المسلمين في وحدة المشاعر والموقف والقضيّة والانتماء.

وابن الاستقامة في الحياة شكّل نهجه الأخلاقي والقيمي مدرسة للتفاعل مع الناس خصوصاً المستضعفين منهم والمظلومين.

إستقامة دينه تجلّت في تعبيره عن صرخات العروبة الثائرة والمقاومة. واستقامة دنياه تبدّت في دفاعه عن حقّ الناس في الاخاء والحرية والعدالة.

هاله أن يرى العروبة مستعمرة. وهاله أن يرى أبناءها مكبّلين بالعداوة والتخلّف والظلم والتجزئة.

حامل الكشّة لم ترهقه المسافات ولم تنل منه المشقّات ولم تضعف من حدّة انتمائه العربي وغليان مشاعره القومية بل أذابت قلبه وعقله في سبيل العروبة فاستحقّ، على قول مارون عبّود، لقب "شاعر الأمّة العربية جمعاء." 

فالأمّة كانت عميقة الحضور في نتاجه ولكنّها لم تصادره مصادرة شوفينية متعصّبة وعنصرية، لم تغلق عليه منافذ التواصل مع التجربة الانسانية العميقة والتجربة الفكرية التي ترقى معانيها إلى الكليات والحقائق القيمية والأخلاقية الثابتة، يقول:

" .. وما الشاعر الوطني الحميّ في أمّة مستعبدة إلاّ الشاعر الانساني قبل أيّ شاعر سواه لأنّ هذه المبادئ التي يسبّح لها ويصلّي في محرابها ويجاهد في سبيلها ليست معبودة وطنه فحسب بل هي معبودة الأوطان جميعاً."

وهو، على قول منح الصلح فيه، "ليس لأحد بل لكلّ الناس. وكان لرشيد سليم الخوري وجود مشعّ على أوسع نطاق. كان عالماً بذاته. اخترق بالموهبة والثبات ومبادرات النّبل ولفتات المودّة كلّ الحدود. كثيراً ما يرتفع إلى تلك الطبقة من المعاني التي يتّحد فيها التأمّل بالاعتبار وبجلال الخالد من المعاني والقضايا."

عروبته قومية إنسانية مضامينها الحرية والشرف والتعاون على البرّ والعدل والحكمة والفنّ والعمران والتسامح والسلام والمعروف ومكارم الأخلاق والخير والشجاعة والفروسية والعفو والرّحمة والعزّة والاباء، يقول:

"ما كانت قطّ اعتداء أثيماً ولا حقداً لئيماً. نشأت رسالة تكبير وتوحيد ودعوة تعاون على البرّ  في يمينها قسطاس العدل وفي يسارها نبراس الهدى. ملأت دنيا الناس حكمة وفنّاً وعمراناً ورفاهاً. تلك روح العروبة وهذه تقاليدها."

عروبته "دين الأمّة الشامل والدين إيمان ومحبّة وتعاون وخير عميم."

وهي الحسب والنّسب وهي الأخوّة، يقول:

"أنا واحد من سبعين مليوناً من العرب، كلّ واحد منهم أنا فينبغي أن أحبّهم قدر سبعين مليون نفس كنفسي. من افتداهم فكأنّما أحياني سبعين مليون مرّة، ومن خانهم فكأنّما قتلني مثلها."

"من أخلص للعرب ونفعهم أحببته ولو كرهني."

والأخوّة في القومية العربية هي أخوّة إنسانية لا عصبية أو عنصرية، يقول:

" قبل الثورة الإفرنسية وقبل شريعة تحرير العبيد الإسمية في أميركا بأكثر من ألف سنة جهر شارعنا العربي الأعظم بمبدأ الحرية والاخاء والمساواة. وقال في حديثه: الانسان أخو الانسان حبّ أم كره."

محبّته الآخر تتجاوز التحامل والعدوان والغضب والحقد والاعتداء والتربّص والكيد والوقيعة والذمّ والظلم والمجافاة، إنّها محبّة تعتذر وتغتفر وتحرّر:

  •  " فما تحرّش بي رفيق الاّ قلت وقلبي في شفتي: لماذا يا أخي؟ ألا تشعر أنّي أحبّك؟"
  • " لم أعتد قطّ، ولا تربّصت بخصم، ولا فكّرت في الكيد لمن مسّني ضرّه، وطالما تجاوزت عن الوقيعة، وصبرت على أقبح الذمّ. يقشعرّ بدني لمرأى العقارب والحيّات."
  • " وربّ رفيق مبداء جفاني فخلّيت له مكانه من قلبي يعود لاحتلاله ساعة يشاء."
  •  " وكم تمنّيت لو أنّهم عاتبوني لأكتشف ذنبي فأعتذر "

محبّة الآخر يترجمها العطاء، وعطاؤه منزّه عن كلّ غاية غير معلن يرافقه حرص على كرامة من يذهب إليه:

" وكنت إثر نهاية الحرب العالمية الأولى قد اقتصدت بعض المال وبعثت به إلى إبن عمّتي القسّ نجيب يواكيم ليوزّعه على يتامى القرية. ثمّ نقلت إليّ من صديق في عاصمة الأرجنتين رسالة تائهة من صبيّة في "البربارة" إلى عمّها في عاصمة البرازيل تستعينه على فاقة مدقعة، وأنا أجهل عنوانه، فاشفقت أن تفوتها الإغاثة،  وهالني أن تعتفد (اعتفد: أغلق الباب على نفسه ومات جوعاً) برباريّة أو تأكل بثدييها فأرسلت مبلغاً آخر باسم الفتاة رأساً مغيّراً اسمي وخطّي وانشائي."

نصرة الفقراء الجائعين تصاحبها لديه لعنة المتخومين المستغلّين:

الرّحمة والحنان يحدوان على العطاء، كذلك الشعور بالعزّة والكرامة الانسانية.

وما يحدو عليه كذلك هو أنّ البرّ والاحسان والصدّقة هي من وصايا الله.

وهي عند الشاعر القروي من قبيل الصّنع الجميل الذي يلذّ له صاحبه ويرتاح.

وإذا كان الآخر ليس به حاجة إلى عطائك وصنع جميلك فأنت مطالب بإيفائه ما له عليك من حقّ وواجب وبالاخلاص له والمودّة والوفاء. 

العلاقة بالآخر تأتي عنده مقرونة بالتواضع والخدمة الشريفة. فالتواضع لا يحطّ من قدر صاحبه بل يرفع من شأنه وهو صنو العلم أو بديله.

والمجد والرّفعة هما لمن يخدم الناس الذين هم دونه في سلّم المراتب. أمّا الحقارة والضعة فهما لمن يضع نفسه في خدمة من هو دونهم فيه. فالأمر الأوّل إحسان والثاني عبودية.

أخلاقيات علاقته بالآخر مستمدّة من أخلاقيات علاقته بالله.

إنّها أخلاقية مؤمنة.

فالايمان أو الشعور الديني، كما كتب:

  • " رافقني طيلة حياتي فرأيت ظلّ خالقي يصحبني أيّان رحلت وحللت. وقد علّمتني التجارب أن لا أمل ولا تعزية إلاّ به وحده وأن لا حبّ إلاّ حبّه. ولولا شغفي بجمال وجوده ويقيني من رحمته وتسليمي لمشيئته لانتحرت من زمن طويل."

هذه هي أخلاقية الرّجاء.

ثمّ يضيف:

  • " قد أنسى الله حيناً في بأسائي، ولكني لم أنسه قطّ في نعمائي. فصلاتي مجرّد تسبيح وشكر وإعجاب بعظمة الخلق واستقواء بذكر الخالق على نزعات نفسي واطمئنان إلى رضاه عنّي."

هذه هي أخلاقية الذكر والعرفان والتماس القوّة والرّضى.

ثمّ يضيف:

  • "حسناتي من الله ومساوئي منّي، هكذا اعتقادي."

هذه هي أخلاقية الاعتراف بالنّقص والاكتمال بالله.

هذه "الأخلاقيات اللاّهوتية" جعلت علاقته بالكون وبالطبيعة علاقة كيانية وعضوية:

  • " وقد يتجسّم شعوري بصلة القربى بيني وبين هذه الأكوان فأنعطف على الشجرة أعانقها والصّخرة أضمّها والزّهرة أناغيها والمرجة أتقلّب عليها وأمدّ ذراعيّ إلى السماء أحييها وأبعث إلى الشمس بقبلاتي على أطراف بناني... وكم هزّني الشتاء العاصف كالرّبيع الضاحك."

ولكن،

 

هذه الأخلاقية الانسانية المثالية لا تحقّق جوهرها "اللاّهوتي" ما لم تكن عروبة منتفضة ثائرة ومقاومة. "فالعروبة اللاّهوتية" لا تعني التخاذل والجبن والاستسلام، يقول:

"فلماذا لا يكون للشرقي حقّ الصراع مع السباع التي تفترس حريته وشرفه وهما أثمن من حياته ألف ضعف؟ للّه ما أبسط عربياً يدعو - وبلغته العربية- إلى السلام إنسانية تأبى أن تعترف به إنساناً بل هي تكرّم كلابها وتحتقره."

والعروبة في لاهوت التحرّر "في صحوها الجديد، على حدّ تعبيره، نهضة من كبوة وإصلاح من فساد واستعداد للجهاد تأديباً للسفّاحين واسترداداً للسّلب وإرضاء للآباء واطمئناناً إلى العزّة."

ويضيف:

"فإذا أوقع العدو بك ولم تنتصف منه أو لم تمل عنه فأنت إنسان فوق الناس وإمّا رجل فاقد الحسّ مقبور النفس في جسد حيّ. ولئن كنت مسيح الغفران إذا أوذيت في شخصك وراح المجرم ينكّل بإخوتك ووالديك وأولادك فقد اختلفت القضية وبطلت في الحلم دعواك. إنّ الدجاجة تستنسر دفاعاً عن فراخها. فلئن أصررت على مباركة الأعداء في مثل هذه الحال فأنت مسيح دجّال والصّلب أخفّ ما تستحقّ عقوبة "

لاهوت التحرّر في عروبة المقاومة يجعل الفعل الاستشهادي فعلاً جهادياً مقدّساً.

لاهوت التحرّر في العروبة المقاومة، في جانب آخر، يفضح لاأخلاقية السياسة الأميركية ويحدو على مقاطعة ما ينتجه العدو حماية للشرف الوطني والقومي، كتب:

"إنّ الطواغيت.. ( صنعوا ) أسلحة يقتلوننا بها ويخرّبون ديارنا. ونحن العرب نكاد نكون أشدّ أهل الأرض إقبالاً عليها واستهلاكاً لها. نحسب أنّنا نبتلعها وهي التي تبتلعنا وتبتلع شرفنا الوطني معنا. أفهكذا يقابل الأحرار الصّفعة؟ أتلك عادة العربي في دفع الضّيم؟ لقد لجأ مسيح الهند إلى المقاطعة في مجاهدة الطغيان - والمقاطعة أيسر النضالين-  فزهد وأتباعه حتى في الضروريات الصادرة عن بلاد الأعداء ولم يضحّوا بالكرامة الوطنية في سبيل مثلهم الأعلى بل جعلوه سبيلاً إلى صيانتها."

لاهوت التحرّر في العروبة المقاومة ثورة على الأذلاّء والمتخاذلين أمام الطواغيت،

لاهوت التحرّر في العروبة المقاومة نزاهة في العمل السياسي وأمانة للوطن لا تخونه ولا تبيعه من أجل لاهوت التحرّر في العروبة المقاومة، تالياً، يوجب إيثار الأمّة والوطن على الذات ذلك أنّ كرامة الذات وعزّة النّفس من كرامة الأمّة وعزّتها.

لاهوت التحرّر في العروبة المقاومة إباء وأنفة، وصحّة النّفس أن يكون المرء أبيّاً يصافح السيف حتى يحرّرها. ومن حرّر نفسه حرّر أمّته.

 

أخلاقيات السياسة أو "لاهوت التحرّر" في نتاج رشيد سليم الخوري جزء من منظومة أخلاقية عامّة تشمل سلوك الانسان في حياته، في علاقته بالآخر، في نظرته إلى العمل، في ارتباطه بالله وبالكون وبالطبيعة. فالأخلاق والفضائل هي جوهر الأقوال والأفعال.

بعد هذا يطرح السؤال :

ماذا يبقى من رشيد سليم الخوري إذا نزعنا عن نتاجه بعده الأخلاقي في السياسة والحياة؟ لا يبقى منه سوى عنصرية قومية شوفينية وحياة بشرية "كلبية" عدائية وعدوانية. وهذا ما كان ليجعل منه "شاعر الأمّة العربية جمعاء"، فالأمّة العربية أمّة سمحاء ومسالمة بين الأمم. تراثها إنساني وأخلاقي وآدابها خالية من المضامين والموضوعات العنصرية.