ماجد السامرائي يكتب:
الحوار السعودي الإيراني.. أصل الحكاية
الإشارات الصادرة عن بعض عواصم النفوذ العالمية حول ضرورة الانتقال من خنادق العسكر إلى غرف الحوار لحل مشاكل المنطقة العربية، تعني بصورة رئيسية إضافة إلى مشكلات النفوذ المتعددة، البحث بالوسائل السياسية عن حلول لأخطر أزمة يعيشها أهل المنطقة مع النظام الإيراني منذ وصوله إلى السلطة عام 1979. لكن واقع الحال يحكي قصة أخرى لهذه العلاقة الملتبسة تجعل التشبث بالحلول الدبلوماسية أكثر تعقيدا.
ما تواجهه البلدان العربية المتضررة من إيران بشكل مباشر في العراق والسعودية وبلدان الخليج وسوريا ولبنان واليمن، ليست مشاكل ونزاعات دبلوماسية ذات طبيعة ثنائية كقضايا الحدود البرية والبحرية قد تحل عبر التفاوض والحوار والتنازلات، إنما هي مشكلة أيديولوجيا النظام الإيراني في إصراره وعدم تنازله عن مشروع تصدير الثورة وتعميمها في هذه البلدان والتي تحولت بمرور السنوات من الخانة الدعوية إلى برنامج أمني مسلح متواصل تنفذه ميليشياته بعد كارثة العراق باحتلاله عسكريا وتسلميه لطهران من قبل الولايات المتحدة.
استراتيجيا وسياسيا وقعت بعض بلدان الخليج العربي في الخطأ التاريخي الذي تحصد نتائجه اليوم بتسهيل ودعم تدفق قوات الاحتلال الأميركي للعراق، ثم الترحيب غير المبرر بوصول قيادات الإسلام السياسي للسلطة في بغداد، رغم معلومات بعض العواصم، خاصة الرياض، بأن هؤلاء ليسوا منقذين ومُصلحين أو بناة لعهد جديد متصالح مع مواطنيه وجيرانه العرب، إنما سيتحولون بعد العراق إلى أدوات لمشروع الولي الفقيه الإيراني في الخليج.
الحوار الجاد والحقيقي بين دول الخليج وإيران يتطلب من النظام الإيراني الوصول إلى قرار تاريخي بالتخلي عن مشروع تصدير الثورة وبناء دولة إيرانية قادرة على التصالح مع شعوبها أولا
تكثيف شعارات التعايش والتصالح والتهدئة مع نظام طهران خدعة كبيرة وسياسة جديدة تقودها إدارة بايدن لمنع انهيار ذلك النظام وتخفيف الضغط عنه وتأهيله ليتحول إلى شريك في النفوذ وفق أفكار الرئيس الأميركي الأسبق أوباما. هذه البدعة ينبغي ألا تمر على بلدان الخليج، فالإدارات الأميركية ليست منظمة خيرية، وحين اقتضت المصالح إرسال الجيوش إلى العراق واحتلاله تم ذلك تحت مختلف المبررات.
لا توجد في سياسات واشنطن وعواصم أوروبا أي رغبة للتضييق على نظام ولي الفقيه أو المساعدة على إسقاطه، بل على العكس من ذلك استمراره ضرورة استراتيجية لابتزاز العرب واستمرار حالة التوتر خدمة لشركات التسليح.
الموالون لطهران في العراق من بعض قادة الحكم، من داخل حكومة الكاظمي وخارجها، وآخرون من ذوي النيات الحسنة الذين يكثفون دعوات التهدئة وضرورة الخضوع لمتطلبات ظروف العالم الجديدة والدخول بحوار سعودي إيراني، يتجاهلون الحقائق السياسية والأمنية، وكأنهم يدعون إلى الخضوع لمنطق ولاية الفقيه وسياساته، مبرّرين ذلك وهما بأن الحوار سيكون مع الدولة الإيرانية وليس دولة تصدير الثورة. وأن الانفتاح على قوى الإصلاح في الدولة الإيرانية سيعزز مكانة تلك القوى ضد الخط المتطرف والحرس الثوري الذين يقودهم جميعا خامنئي.
أثار تسريب تسجيل مثير لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من داخل مكتب رئيس الجمهورية حسن روحاني مسألة نفوذ الدولة الأيديولوجية المتمثل بالحرس الثوري وخضوع الدولة الرسمية لها، في حديثه الصريح حول وقائع تؤكد أن القتيل قاسم سليماني كان المُرجح لنفوذ الميدان القتالي على السياسة الدبلوماسية. وهذا يؤكد أن المؤسسات الرسمية، خاصة الخارجية، هي واجهات سياسية لا قرار لها، وأن الحديث عن تيار إصلاحي وآخر متشدد بدعة، فالقرار بيد خامنئي الذي يفتخر بإدارته لقوات الحرس الثوري وفعالياتها الخارجية.
الهيمنة الشاملة وولاية انتداب العراق أصابت ولي الفقيه الإيراني خامنئي بالغرور ودفعته إلى التمسك بتلك النظرية الثورية الخطيرة
الهيمنة الشاملة وولاية انتداب العراق أصابت ولي الفقيه الإيراني خامنئي بالغرور ودفعته إلى التمسك بتلك النظرية الثورية الخطيرة وبتعزيز الوسائل والأدوات الموجهة ضد بلدان الخليج بقناعة واهمة بأنها ستتساقط الواحدة تلو الأخرى كأحجار الدومينو بعد العراق، عبر تكرار نجاح توظيف نظرية مظلومية الشيعة في الأوساط الإعلامية العربية والعالمية واستثمار نفاق بعض الدول الأوروبية في هذا المجال، وتعزيز وتنمية أدوات التخريب الداخلية في عواصم تلك البلدان رغم الفارق الكبير ما بين نسب عدد سكان الشيعة في العراق عنهم في دول الخليج العربي.
مسلسل التخريب والتآمر الإيراني على دول الخليج في السنوات الأخيرة أخذ أشكالا مختلفة، أخطرها استثمار مشكلة الحوثيين مع إخوانهم في اليمن على تقاسم السلطة، ثم انفجار الحرب غير المبررة منذ ست سنوات كمنصة لتصعيد العدوان على السعودية التي تعمل منذ فترة على إحلال السلام بعد أن أصبحت هذه الحرب مكلفة بشريا وعائقا ماديا وبشريا أمام تطلعات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وخطته الإصلاحية (2020 – 2030).
إدارة بايدن توّظف ملف حرب اليمن ليصبح واحدة من أوراق صفقتها مع طهران، مستغلة رغبة الأطراف اليمنية والخليجية بإنهاء هذه الحرب غير المبررة؛ لو رفعت طهران يدها، وهي لن تفعل ذلك، لتم حل الأزمة بأيام، رغم الدعم الإيراني اللامحدود لقيادة الحوثي لكن يبقى الحوثيون يمنيين يمكنهم التحاور مع إخوانهم.
العراق بسبب موقعه الجيوسياسي له تأثير في تصعيد أو تخفيف الأزمة الإيرانية السعودية، ويجعل من حماسة الكاظمي الشخصية لانفراج العلاقة السعودية الإيرانية أمرا مبررا، قد يخفف أو يلغي حسب اعتقاده من اندفاع الميليشيات المتطرفة الموالية لإيران في توجيه الضربات الصاروخية على الأراضي السعودية، بعضها موّثق لدى السلطات المختصة، ومثالها إطلاق الطائرات المفخخة على قصر اليمامة بالرياض.
طهران بتصديرها للثورة تضع عواصم الخليج وفي مقدمتها الرياض على قائمة المدن التي تعمل على إخضاعها لهيمنتها، معتقدة أن الطريق سهل مثلما حصل في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وهذه حقيقة يعرفها قادة الخليج أنفسهم ولدى دوائرهم الأمنية المعطيات المادية لهذا المشروع، وعيهم المتصاعد أربك مشروع التوسع وتصدير الثورة. حاليا ولي الفقيه يضع بين يديه مخطط التسلل والنفوذ عبر الورقة “الشيعية” لهذا يحتاج إلى التهدئة لتمكين أدواته الخارجية من التسلل، وأدواته الداخلية من العمل التخريبي بحرية أكثر. والهدف العاجل هو الرياض وأبوظبي والبحرين، مسقط والدوحة مؤجلتان وتحتاجان إلى المناورة.
استراتيجيا وسياسيا وقعت بعض بلدان الخليج العربي في الخطأ التاريخي الذي تحصد نتائجه اليوم بتسهيل ودعم تدفق قوات الاحتلال الأميركي للعراق، ثم الترحيب غير المبرر بوصول قيادات الإسلام السياسي للسلطة في بغداد
الحقد التاريخي على العرب يدفع طهران في استراتيجيتها الكبرى إلى أن يصبح الإنسان السعودي والإماراتي والبحريني جائعا مُشرّدا غير آمن، مثلما حصل للعراقي الذي كان في طريقه للتقدم المدني والحضاري، وكذلك الإنسان السوري واللبناني. مشاعر حقد وثأر من الإنسان داخل المجتمعات الخليجية الذي يعيش رفاها متميزا ومعدلات دخل عالية فيما يعيش الإيرانيون في أسوأ حال.
تحتاج الرياض إلى توضيحات رسمية على خلفية غموض الأخبار حول حوار سعودي إيراني، حيث يفسّر البعض التصريح الأخير لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بقوله “إيران دولة جارة ونطمح في أن تكون لدينا علاقات مميزة معها، نريد إيران دولة مزدهرة”، وكأنها تلميحات بقبول الرياض لعلاقات طبيعية مع طهران، مؤكدا أن الاستراتيجية السعودية في العلاقة مع النظام القائم في طهران ثابتة، والمطلوب من حكام طهران تغيير استراتيجيتهم وليس العكس.
الحوار الجاد والحقيقي بين دول الخليج وإيران يتطلب من النظام الإيراني الوصول إلى قرار تاريخي بالتخلي عن مشروع تصدير الثورة وبناء دولة إيرانية قادرة على التصالح مع شعوبها أولا، ثم الانسحاب من العراق وسوريا ولبنان واليمن لتتمكن من التصالح مع دول الخليج العربي، فهل يقوم النظام بهذه الخطوة التاريخية، نشك في ذلك.