عبدالله بن بجاد العتيبي يكتب:

تحركات رقعة «الشطرنج»

السياسة فن الممكن، والممكن واسعٌ ومتعدّد، كبير وصغير. والتفكير في الممكن يختلف عن التفكير في الطموحات، وفن الممكن حين تحسن إدارته يصنع المعجزات ويغير التاريخ.
رمال السياسة المتحركة مستمرة في حراكها الدائم، والتغييرات في رقعة الشطرنج السياسية كبيرة دولياً وإقليمياً، والسعودية تؤكد دائماً حرصها على الاستقرار والاعتدال في المنطقة ومع كل الدول، وهي أطلقت مبادرة تاريخية تجاه اليمن، وقادت مصالحة إقليمية مع قطر، وتجري محادثاتٍ مع إيران، في ظلّ رؤية متماسكة تقودها المصالح والفهم العميق لتوازنات القوى.
أكد السفير رائد قرملي، مدير إدارة تخطيط السياسات في وزارة الخارجية السعودية، وجود محادثات بين المملكة وإيران، وشدد على القول إن السعودية «تريد أن ترى أفعالاً يمكن التحقق منها»، وبحسب هذه الصحيفة، أمس (السبت)، فقد أكد أن الهدف من المحادثات السعودية - الإيرانية، هو خفض التوتر في المنطقة، وقال: «نأمل نجاح المحادثات... بيد أنه من السابق لأوانه التوصل إلى أي استنتاجات محددة».
من قبل، تحدث ولي العهد السعودي في حواره الأخير عن إيران بكل وضوح، مؤكداً أن السعودية لا تريد أن تكون إيران «في وضع صعبٍ»، بل «تريد إيران مزدهرة وتنمو، لدينا مصالح فيها، ولديهم مصالح في السعودية، لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار»، وبصراحة أكبر قال: «كل إشكالياتنا هي في التصرفات السلبية التي تقوم بها إيران؛ سواء برنامجها النووي أو دعمها لميليشيات خارجة عن القانون»، مؤكداً أن «السعودية تعمل مع الشركاء في المنطقة وفي العالم لإيجاد حلول لهذه الإشكاليات «ونتمنى أن نتجاوزها، وأن تكون العلاقة طيبة وإيجابية وفيها منفعة للجميع».
رحّبت إيران بهذه التصريحات وهذه السياسة السعودية الواضحة، ولا تخطئ العين الحراك الكبير الذي تقوده السعودية في المنطقة هذه الأيام، والرسائل المتبادلة مع كبار قادة دول الخليج والمنطقة، بدءاً بولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، وليس انتهاء برئيس وزراء باكستان عمران خان، والدعوات التي وجهتها السعودية لأمير قطر وسلطان عُمان، والمفاوضات الجارية في العراق.
المفاوضات مع إيران دولياً تختلف عنها إقليمياً، فأهل المنطقة أدرى بمشكلاتها، وهم المعنيون بها أصالة، والإصرار على رفض جلوس السعودية ودول الخليج على طاولة المفاوضات مع إيران في فيينا مؤشر على إمكانية ارتكاب الأخطاء نفسها، بل والخطايا مرة أخرى؛ فلماذا لا تكون ثمة طاولة مفاوضات جديدة ومختلفة تكون أولويات دول المنطقة فيها مباشرة وبلا وسطاء؟

هل تنفي هذه المفاوضات الإقليمية كل سياسات إيران المعادية للدول العربية؟ بالتأكيد لا، ولو كان الجواب بنعم؛ فلماذا تجري المفاوضات إذن؟ إيران دولة جارة بحكم «الجغرافيا»، وبالإمكان حين تتخلى عن «التصرفات السلبية» أن يتم التعاون معها فيما يخدم بلدان المنطقة وشعوبها، خصوصاً ما يشهده العالم دولياً وإقليمياً من تغييرات في توازنات القوى والتوجهات السياسية، مثل ما يجري في «مفاوضات فيينا» من قبل دول «الخمسة زائد واحد»، وسعي تركيا القوي للتصالح مع مصر، وقطعت فيه شوطاً، ثم التصالح مع السعودية، وما سيلحقه.
لم تغير تركيا سياساتها واستراتيجياتها في المنطقة بين عشية وضحاها، ولكنها السياسات العربية المستمرة منذ سنواتٍ على جميع المستويات التي ساعدت تركيا على رؤية المشهد السياسي الدولي والإقليمي، ومراجعة سياساتها واستراتيجياتها.
قراءة التاريخ السياسي صراعاً وحروباً، تعاوناً وسلماً، في المائة عامٍ الأخيرة كفيلة بإعطاء صورة عما سيجري في المائة عامٍ المقبلة. «الحرب العالمية الأولى» كانت مؤشراً على انهيار التوازنات السياسية القديمة وبدء الصراعات والحروب، ثم هدأت الحرب وانتشر سلامٌ هشٌ، حتى عاد الصراع مجدداً، وقامت «الحرب العالمية الثانية»، وانقضت هي أيضاً، وقامت سوق «الحرب العالمية الباردة»، ثم انقضت هي أيضاً بسقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه.
في التسعينات، وبعد انتهاء الحرب الباردة، أخذ المفكرون في محاولة استشراف المستقبل، وكتب زبغنيو بريجنسكي متوقعاً صعوداً روسياً جديداً بالتعاون مع الصين وإيران، وهذا ما حصل، وطرح غيره أنه سيكون صعوداً روسياً بطابعٍ قومي هذه المرة، وحصل، وكتب صمويل هنتنغتون مستشرفاً صداماً للحضارات يكون فيه «الإسلام» عدواً جديداً، وهي رؤية طوّرها في 2004 ليقول إن الجماعات الإسلامية المتشددة لا المسلمين هي العدو الجديد، وهذا - أيضاً - حصل.
من الصين وأفغانستان وباكستان شرقاً إلى المملكة المغربية غرباً مروراً بإيران وتركيا وإسرائيل ودول الخليج والدول العربية عموماً، تقع منطقة الشرق الأوسط، التي أدمنت الصراعات والحروب، وتجتمع فيها كل التناقضات السياسية والتاريخية والإثنية والدينية والمذهبية، التي يعلمنا التاريخ أن صراعاتها لا تنتهي، وإشكالياتها لا تُحل، وأدوار القوى الدولية فيها ليست بريئة، وبالتالي فلا مستقبل لها إلا بالتعايش الذي يحمي مصالح الجميع، والتعاون الذي ينمّي البلدان، والسلام الذي يمنح الفرصة للمستقبل.
الدبلوماسية السعودية النشطة تعيد المشاركة في خلق «شرق أوسطٍ جديدٍ»، ويعلم المتابع جيداً حجم هذه الدبلوماسية ومساحتها، وإعادة بناء رقعة شطرنجٍ جديدة في منطقة واسعة واختلالاتٍ بينة في توازنات القوى الدولية، والمؤشر الأهم في هذا كله هو أن دول المنطقة، وعلى رأسها السعودية، بدأت تنطلق من «الفعل» و«التأثير» والمساهمة القوية والمتوازنة بين «الصراعات» القائمة و«التفاهمات» المطلوبة، وأن بناء مستقبل المنطقة يتم على أكمل وجه حين يصبح «التفاوض» مباشراً وصريحاً، وتكون الأطراف جميعاً قادرة على تقديم «تنازلات»، وتثبيت «اشتراطاتٍ» تكون جميعاً قادرة على خلق «اختراقاتٍ» حقيقية تصنع الفارق.
تغيّر «السياسات» و«التوجهات» للقوى العظمى في العالم أمرٌ دائم الحدوث، وهو وإن كان يتم ببطء، فإنه أكيد المفعول، والضعفاء يراقبون ويرضخون، والأقوياء يتحركون ويفعلون، والمعرفة والرؤية والقدرة على اتخاذ القرار ثلاثٌ لا محيد عنها لمن يسعى للفعل والتأثير، ولا يكتفي بالمشاهدة والمراقبة.
هناك الكثير مما قيل والكثير مما لم يُقَل عن «السلوك السلبي» للنظام الإيراني، وحراك التاريخ فيه دورات للصراعات ودورات للسلم، وبين هذه وتلك يستمر التاريخ في مساره وتجري تغييراته.
أخيراً، فالسعودية صادقة في توجهاتها وسياساتها، وهي تطلقها من منطلق قوة، ومَن يضع ضمن استراتيجياته المعلنة وهو يقود «مجموعة العشرين» أن المنطقة ستكون «أوروبا الجديدة»، وأن «الشرق الأوسط الأخضر» غاية، ويحشد لهما الدعم والتأييد، فغايته واضحة، وأهدافه مُعلَنة.