د. ساسين عساف يكتب:
تحرير الجنوب 2000.. دروس للراهن اللبناني
أثبت تحرير الجنوب في العام 2000 أنّ الإنتصار على إسرائيل أمر ممكن، وأسقط النظرية القائلة بأن العين لا تقاوم المخرز، وأنّ تحاشي المواجهة والعمل على تحرير ما تبقى من أراض لبنانية محتلّة بالوسائل الديبلوماسية وتقديم الشكاوى لمجلس الأمن هي الإجراءات الأنسب للتحرير ولحماية لبنان من عمليات السحق والتدمير "والعودة به إلى القرون الوسطى على حدّ تعبير أحد المسؤولين الصهاينة"، وهو قول تبنّاه أصحاب نظرية تحاشي المواجهة "وعدم توفير الذرائع لاستدامة الإحتلال والعدوان"!
الشرخ في البنيان الوطني اللبناني المستند إلى هذين التوجّهين المتعاكسين يزداد عمقاً واتّساعاً إتّساقاً مع مرور السنين على عام التحرير بسبب أنّ البعض ما زال يعتقد أنّ تحرير الجنوب في ذلك العام تمّ تنفيذاً للقرار 425 الذي صدر في 19 آذار 1978. إثنتان وعشرون سنة كانت قد مضت على صدوره من دون تنفيذ إلى أن "أظهرت إسرائيل حسن نيّتها"!!
أما آن بعد لهذا الفريق أن يعدّل موقفه من قرارات الأمم المتّحدة ومجلس الأمن ليس فقط إعترافاً، ولو جاء متأخّراً، بما أنجزه شهداء المقاومة بل في ضوء ما هو عليه اليوم، كما البارحة، تنفيذ سائر القرارات الدولية ذات الصلة بالشأن اللبناني وبسائر شؤون المنطقة وبخاصة ما يتعلّق منها بالقضية الفلسطينية؟
ألم يتكوّن لديهم يقين، في ضوء تجاربهم وتجارب سواهم مع إسرائيل، بأن الدولة العبرية هي فوق القرارات الدولية وبانّها دولة إستثنائية لا تجري عليها مفاعيل تلك القرارات؟
أبات هذا الشرخ من طبائع اللبنانيين وقدرهم وغير قابل للمعالجة شأنهم إزاء الموقف من إسرائيل وردّ اعتداءاتها شأنهم إزاء القضايا المصيرية خصوصا متى كانت بحجم التحرير؟
شكّل اتّفاق الطائف بنسبة مقبولة إطاراً للتفاهم الوطني لاحتوائه إجماعات وطنية معروفة العناوين. أوّلها تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي بالعمل على تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بإزالة هذا الاحتلال، وباتّخاذ الإجراءات كافة الكفيلة بالتحرير.
أمّا وقد تمّ تحرير الجنوب بواحد من هذه "الإجراءات كافة" (المقاومة المسلّحة) فذلك يعني منطقياً أنّ نقطة إجماع مركزية في الميثاق الوطني الجديد قد أضيفت إلى رصيد الوحدة الوطنية، فلماذا التفريط بهذا الرصيد؟
منذ عام 1982، تاريخ بدء عمليات المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، انقسم اللبنانيون فئتين: واحدة تقول بجدوى العمليات ومردودها الإيجابي في القدرة على التحرير، وأخرى تقول بعدم جدواها ومردودها السلبي مزيداً من القتل والتدمير والتهجير وتخريب البنى الاقتصادية. على قاعدة هذا الانقسام جرى نقاش واسع بين اللبنانيين بشأن تلك العمليات، خصوصاً بعد مؤتمر مدريد والسير في اتّجاه التسوية.
جاء التحرير ملحقاً الهزيمة العسكرية والسياسية والنفسية بإسرائيل ليغلق هذا النقاش نصف إغلاق ويبدّل النّظرة عند الكثيرين بضغط من وهج الإنتصار.. فأين المصلحة اليوم في إعادة فتحه لكي تتعدّد المسارب إلى أطاريح أبوابها موصدة؟
بتبدّل القناعات في ضوء التجربة والواقع تتشكّل لدى اللبنانيين، بعد إجراء المراجعات النقدية الذاتية الشجاعة، بأكثريتهم الساحقة، نظرة واحدة إلى الدولة العبرية، موقف واحد ومواجهة واحدة، حماية لسيادتنا وثرواتنا المائية والغازية.
منذ إعلان دولة لبنان الكبير، وعلى مدى مئة عام من عمرها، انقسم اللبنانيون حول وظيفة هذه الدولة ومسوّغات نشوئها. منهم من وجد فيه التماساً تاريخياً لحقّ فئة منهم في الامتياز والخصوصية، ومنهم من وجد فيها وجه مؤامرة غربية متجدّدة عنوانها التفتيت والتجزئة.
هذا الانقسام حول وظيفة الدولة اللبنانية وجد له تسويات أبقته مترجّحاً بين التقلّص والتمدّد، مرهوناً بموازين القوى المحلّية والإقليمية والدولية. هذه التسويات كانت تأتي لتبقي الدولة دولة إفتراضية أو مشروعاً ملتبساً ينتظر تحوّلاً ما يأتيه من خارج حدوده.
طوال سنوات "الحرب الأهلية المركّبة" أنتجت التحوّلات الإقليمية أفكاراً كثيرة بشأن هذا الدولة. برزت منها فكرتان:
واحدة تقضي بتصفيتها تطبيقاً لمقولة آرينز " لبنان خطأ تاريخي وجغرافي يجب تصحيحه".
أمّا الفكرة الثانية فكانت تقضي بتكريس أراضيها ساحة مفتوحة على صراعات الآخرين وحروبهم يستخدمونها للضّغط والضّغط المضادّ وإبلاغ الرسائل وإبراز القوّة وليّ الأذرع وتحصيل المكاسب، فراجت مقولة لبنان/الساحة.
جاء فعل التحرير ليعلم المعنيين بالأمر من أقربين وأبعدين، أشقّاء وأصدقاء وأعداء، أنّ الدولة اللبنانية عصيّة على الإرادات الخارجية وبخاصة الإرادة الأميركية/الإسرائيلية، وأنّ أراضيها غير قابل للفرز والضمّ ، وأنّها دولة حقيقية..
هنا مفهوم الدولة اللبنانية لم يعد مشروطاً بمفهوم الكيانية المبنية على حيثيات تاريخية يؤكّدها البعض وينفيها البعض الآخر بل صار مبنيا على حيثيات واقعية راهنة تمنحه شرعية الاستمرار..
هنا نسأل لماذا إعادة فتح النقاش في جدالات البعض وأطاريحهم القديمة/الجديدة حول مصير هذه الدولة وشكلها؟
لقد بات الجدل عقيماً حول الدولة اللبنانية وقوّة إستمرارها دولة وحدوية .. قوّتها ليست في ضعفها بالتأكيد.. بل في سرّ الإلتحام بين جيشها وشعبها المقاوم..
قبل التحرير، على امتداد سنواتها المئة، سادت فكرة في بعض الأوساط الثقافية والسياسية حتى ارتقت في "خطاب الحرب" إلى مستوى التفكير الإيديولوجي الذي يخطّ عناوينه ويحرّك مفرداته ويعبّئ مضامينه، وهي فكرة تقول: إنّ لبنان هو صنيعة المسيحيين.. هو وطن من أجل المسيحيين.. المسيحيون هم الذين سعوا إلى إيجاده فأوجدوه.. هم بناته وحماته التاريخيون.. وهم الذين منحوه الامتياز في الهوية والخصوصية.. قدّموا أنفسهم كاملي الأوصاف والأهلية الوطنية.. هم الانتماء وهم الولاء المطلق والهويّة التامّة في ذاتها.. هم اللبنانية والسيادة والقرار الحرّ..
المدرسة الانتدابية التي هيمنت على عقول عدد كبير من النّخب المسيحية هي التي ابتكرت هذه الفكرة وأنتجت أدبيات سياسية خاصّة تبنّتها أحزاب وتيّارات سياسية فدفعتها إلى التعامل مع الوطن بوصفها "ملاكه الحارس"!!
المدرسة الانتدابية لقّنت هؤلاء النخب مبادئ وأفاهيم سياسية وتاريخية مغلوطة لإبقائهم في دائرة التبعية الثقافية والسياسية خدمة لمصالح أصحابها في لبنان والمنطقة.
وإذا كان في تعليم هؤلاء شيء من الحقيقة التاريخية، فالحقيقة الكاملة هي أنّ لبنان/الكيان ولبنان/الهوية ولبنان/الموقع والدور والقضية هو صنيعة جميع اللبنانيين على مدى تاريخه الحضاري والسياسي. فتاريخه ليس ملكاً محصوراً بفئة. جميع الفئات أسهمت في صنعه على اختلاف الأزمنة والمراحل. ولا امتياز فيه لفئة على أخرى إعلاء لشأنه ودفاعاً عن مصالحه.
وإذا كان لبنان الوسيط حصيلة تفاهم درزي/ماروني (إمارة فخر الدين) ولبنان الحديث حصيلة تفاهم ماروني/سنّي (ميثاقية 1943) فانّ لبنان المعاصر بعد التحرير أليس من الأجدى العمل على بناء دولته على أوسع قاعدة من التفاهم الوطني الشامل؟
نحن اليوم في لحظة تاريخية مؤاتية لإحداث تركيب وطني عضوي بين الفئات اللبنانية بمناهج علمية وعقلانية وتنموية لا بدّ تؤتي ثمارها في بناء الدولة الوحدوية.
اللبنانية بقيمها الجديدة (لا فضل للبناني على آخر في الدفاع عن لبنان والإستشهاد في سبيل عزّته وسيادته وكرامة شعبه) تشكّل قاعدة صلبة لترسيخ الوحدة الوطنية فلحظة تحرير الجنوب لحظة تاريخية لم يفت أوانها بعد لاستدخال مفاعيلها في بناء دولة لجميع أبنائها من دون تمييز، بخاصة متى كان على أساس طائفي أو مذهبي.
إنّ تركيب دولة وطنية عضوية هو المشروع الوحيد المنقذ من ضلال وانتحار فكلّما ابتعد تنفيذه أو استعصى كلّما تعمّقت الفوارق بين الخيارات وازداد الصّدع السياسي (الإيديولوجي والسيكولوجي) عمقاً بين اللبنانيين، هنا قد نتمكّن من التصدّي للبدايات وإلاّ أدركتنا النهايات من غير احتساب..