د. ابراهيم ابراش يكتب:
ضرورة الدمج بين خطاب المقاومة وخطاب السلام
غياب الوحدة والاستراتيجية الوطنية وخصوصا فيما يتعلق بالمقاومة والتسوية السياسية، واصطناع تعارض بين المقاومة والسلام أو بين من يقاوم ومن يمارس العمل السياسي والدبلوماسي، كل ذلك أدى إلى خطاب سياسي فلسطيني مأزوم ومتناقض مع بعضه بعضاً، وهو الأمر الذي يؤدي لإرباك المتلقي وعدم قدرته على الفهم الصحيح لما يجري فلسطينياً وما الذي يريده الفلسطينيون.
لن أخوض في تحليل مضمون الخطاب السياسي الرسمي والحزبي ولا بجدلية العلاقة بين المقاومة والتسوية السياسية -وقد كتبنا كثيرا حول الموضوع- بل سأقتصر على الخلل وأوجه التعارض بين موقف منظمة التحرير والرئيس أبو مازن وموقف حركة حماس من خلال خطابهم السياسي الرسمي خلال الانتفاضة المعاصرة وما تلاها، وأسباب هذا التعارض.
الخطاب السياسي للرئيس أبو مازن اتسم بالهدوء والواقعية والعقلانية بعيداً عن العواطف والشعارات وعَكَس قدراً أقل من الانفعال والتفاعل مع الأحداث، وهو أخذ هذا المنحى لأن الرئيس أبو مازن كما هو معروف عنه تاريخياً ليس قائدا جماهيرياً وشعبياً بل نخبويا وواقعيا لا يُعير كثير اهتمام للجماهير وقدرتها على التغيير ولا يؤمن بالثورة المسلحة أو الانتفاضة أو أي عمل عنيف حتى في سياق الدفاع عن النفس، ويراهن على أن حل القضية الفلسطينية لن يكون إلا من خلال الحلول السلمية والعمل الدبلوماسي والعلاقات الرسمية مع الدول والمنظمات الدولية حتى وإن طال أمد هذه المراهنة، وأن العمل المسلح مجرد أداة وقد حقق هدفه في بداية انطلاق الثورة بإبراز الهوية الوطنية واستقلاليتها واعتراف العالم بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً.
هذا النمط من التفكير ينتج خطابا سياسيا وإن كان مقبولاً من الدول والمنتظم الدولي ونخب سياسية محلية ودولية، إلا أنه غير مقبول عند القطاعات الشعبية وحتى عند الجماهير عبر العالم وخصوصاً في حالة الاشتباك الساخن مع العدو ومبالغة إسرائيل في جرائمها وإرهابها كما حدث الشهر الماضي وخصوصاً على جبهة غزة. كما أنه خطاب لا يأخذ بعين الاعتبار ما احدثته الثورة او الانتفاضة الأخيرة على مستوى العالم ونظرته لإسرائيل وعلى المستوى الوطني حيث تبدت وحدة الشعب وعادت روح المقاومة والصمود.
كان من المطلوب أن يتضمن الخطاب الرسمي كما عبر عنه الرئيس إعادة النظر بهذا الرؤية أو النزعة السلموية وجعلها أكثر واقعية وعقلانية لو وظفت وحدة الشعب وحالة المقاومة الناشطة ضد الاحتلال وصمود وتضحيات غزة.
إن كان الخطاب السياسي للرئيس أبو مازن يبدو متعالياً عن الشعب ويفتقر للحماسة والتهييج فإن الخطاب السياسي لحركة حماس، كما تبدى خلال المواجهات المسلحة على جبهة غزة وما بعدها ومن خلال الخطاب الأخير لرئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية في قطر بداية الانتفاضة، وخطاب السيد يحيى السنوار قائد حماس في غزة بعد وقف إطلاق النار، هذا الخطاب كان به بعض التعالي والبعد عن الواقع والمبالِغة في الشعاراتية والعاطفة والحماسة ولغة التهديد والوعيد لإسرائيل والمبالغة في مقدرات المقاومة المسلحة دون الإشارة إلى أفق ومآل استمرار المواجهات المسلحة على جبهة غزة فقط.
هذا الخطاب المقاوم حتى وإن كان يعبر عن الحق الفلسطيني المطلق في فلسطين ويتجاوب مع مشاعر جماهير أذلها الاحتلال والاستيطان ويعبر عن حالة غضب على تعثر وفشل نهج التسوية الأميركية التي دشنها اتفاق أوسلو وغضب على عدم جدية العالم في مواجهة الكيان الصهيوني ونصرة عدالة القضية الفلسطينية، إلا أن المبالغة في الحديث عن النصر والقدرات العسكرية للمقاومة والندية مع إسرائيل، سيكون لكل ذلك نتائج سلبية على القضية الوطنية وقد يفهم من هذا التضخيم للقدرات وكأن اسرائيل هي المهددة بوجودها وأمنها وأن الفلسطينيين لا يريدون سلاما أو تسوية سياسية عادلة بل لا يحتاجون لدعم ومساعدة العالم.
غاب عن أصحاب هذا الخطاب أنه في زمن الثورة الرقمية والفضاءات المفتوحة فإن هذا الخطاب يتم مشاهدته وتوثيقه كخطاب رسمي لحركة حماس وكتعبير عن مواقفها ورؤيتها السياسية، وهو خطاب غير مقبول ومفهوم عند الدول والمنظمات الدولية بل أيضاً عند قطاع كبير من أصدقاء فلسطين عبر العالم ممن يتسمون بالعقلانية ويبحثون عن خطاب سياسي فلسطيني واقعي وعقلاني يواجه الخطاب الصهيوني الذي يزعم أن إسرائيل دولة سلام وأن الفلسطينيين إرهابيون يريدون تدمير إسرائيل!
نعلم أن هناك قنوات تواصل ومفاوضات مباشرة وغير مباشرة بين حركة حماس والولايات المتحدة والأوروبيين وإسرائيل، وفي هذه المفاوضات تستعمل حركة حماس لغة وخطابا مغايرا للخطاب الموجه للجماهير كما تطرح اهدافا سياسية واقعية لا تختلف كثيرا عما يطرحه الرئيس أبو مازن ومنظمة التحرير. لو كانت حركة حماس اكثر صراخة مع الشعب وابتعدت عن الباطنية والتقية، ولو تحررت منظمة التحرير والرئيس من قيود نهج أوسلو وشبكة المصالح المرتبطة به، لو تم ذلك لكان من الممكن التوصل إلى رؤية واستراتيجية عمل تجمع بين المقاومة والبحث عن سلام عادل.
هذه الرؤية توظف المقاومة التي أبدعت في غزة وكل ربوع فلسطين حسب خصوصية كل منطقة مع التحول الاستراتيجي عبر العالم تجاه إسرائيل حيث انكشفت إسرائيل أخلاقياً وسياسياً، وهذا الانكشاف وحالة الغضب على إسرائيل دولياً أزعجها بما لا يقل عن إزعاج صواريخ المقاومة، توظيف كل ذلك لإنتاج خطاب سلام تسنده وحدة الشعب والمقاومة كما تبدت في الشهر الماضي، أو فلنقل خطاب مقاومة يؤكد على عدالة القضية والحق بالمقاومة وفي نفس الوقت يطلب السلام العادل وتحرير الشعب الفلسطيني من نير احتلال الدولة الكولونيالية الأكثر ارهابا وإجراما وعنصرية في العالم.
انتقاد أو تبيان أوجه الخلل في خطاب ونهج منظمة التحرير والرئيس أبو مازن لا يعني أن خطاب ونهج حركة حماس هو البديل والعودة لشعار "المقاومة بديل عن السلام"، وانتقاد أو تبيان أوجه الخلل في خطاب ونهج حركة حماس وفصائل المقاومة المسلحة في غزة لا يعني أن خطاب ونهج المنظمة والسلطة والرئيس هو البديل، المطلوب الالتقاء وسط الطريق حيث لا تعارض بين المقاومة والسعي للسلام، بل يمكن القول بأن مقاومة الشعب الفلسطيني من أجل الاستقلال تُضمر مشروع سلام لفلسطين والعالم.