د. ابراهيم ابراش يكتب:
القيادة والنظام السياسي في فلسطين: تباسيم الواقع وتحديات المفهوم
حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يتعرض لها شعبنا ومحاولة حكومة اليمين الصهيوني تصفية القضية وحالة الصمت والعجز الدولي والعربي... كل ذلك يجب ألا يدفعنا لتجاهل أوضاعنا الداخلية، فما دام هناك شعب فلسطيني يجب أن تكون له قيادة ونظام سياسي يعبر عنه ويجسد طموحاته، وهول التحديات يحتم الاهتمام أكثر بوجود قيادة ونظام سياسي أكثر صلابة لمواجهة هذا التحدي الوجودي.
هناك منظمة التحرير وحركة حماس والسلطة الفلسطينية وهناك سلطة في الضفة وسلطة في غزة وكل منهم يدعي أنه يمثل الشعب، وهنا تكمن المشكلة حيث لم يعد العالم الخارجي يعرف بالضبط من هو ممثل الشعب الفلسطيني وحتى الشعب يعيش حالة تيه وفقدان للبوصلة، فهل يمنح ولاءه وثقته بالمنظمة والسلطة أم لحركة حماس وفصائل المقاومة؟
هذا الالتباس والارباك نجده حتى داخل التيار الوطني أو ما تسمى الشرعية الفلسطينية وهو ما يتجلى في تناقض وارتباك مواقفها تجاه المقاومة المسلحة وطوفان الأقصى.
نتفهم أن يدافع عن حركة حماس والمقاومة المسلحة وطوفان الأقصى أفراد أو جماعات من الفئات التالية: مواطنون عاديون يؤمنون بالمقاومة دون أي حسابات حزبية أو شخصية، منتمون لجماعة الإخوان المسلمين أو لهم توجهات دينية أو من محور المقاومة، عرب يريدون التعبير عن عواطفهم في قضية وحرب يفترض أن يكونوا مشاركين فيها ولكنهم لا يستطيعون إلا من خلال الدُعاء والتدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي، أو فلسطينيون ناقمون على السلطة الفلسطينية لسبب من الأسباب، أو حتى أجانب يؤمنون بحق الشعب الفلسطيني بالمقاومة لتحرير بلادهم دون أن يكونوا مطلعين على خفايا الصراع وتشابكاته.... يمكن لأي من هؤلاء الدفاع عن حركة حماس ومباركة عملياتها والدفاع عن طوفان الأقصى بل وتقبُل كل ما لحق بقطاع غزة من موت ودمار كثمن لمعركة التحرير كما يعتقدون.
ولكن المستغرب أن يأتي هذا التأييد من قيادات ومسؤولين في حركة فتح ومنظمة التحرير التي يفترض أنها الممثل الشرعي للشعب والناطقة باسمه.
فإذا كانت مقاومة حماس المسلحة شرعية وصحيحة فلماذا لا تمارسها كل فصائل المنظمة وخصوصا حركة فتح أو يسمحون بممارستها في الضفة والقدس، ويسمحوا لعناصرهم في القطاع المشاركة فيها؟ وكيف نفسر أنه في مقابل هؤلاء هناك آخرون يعارضون حماس ويخونونها أحيانا؟!
قد يقول قائل إن تناقض المواقف توجه مقصود للإبقاء على شعرة معاوية مع حماس وفصائل المقاومة عسى ولعل أن تتحقق المصالحة والوحدة الوطنية، أيضا حتى يبدو الفلسطينيون أمام العالم موحدين في مواجهة الاحتلال، كما سيكون من الصعب على المنظمة وحركة فتح الإعلان جهرا معارضة أي عمل عسكري ضد دولة إرهابية عنصرية تمارس الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني ونُجهر برفضها للسلام ومعاداتها حتى للسلطة الفلسطينية، وفي حالة انتقادهم ورفضهم لما تقوم به حماس قد يواجهون بالسؤال: وهل لديكم من بديل للمقاومة؟!
هذا التبرير والتفسير غير مقنع ولا مفهوم تماما بالنسبة لغالبية الناس حتى وإن كان به درجة من المعقولية النظرية.
إن كان البعض يفكر بهذا الشكل فإن بعض القيادات والمسؤولين في السلطة الفلسطينية والمنظمة يدافعون عن طوفان الأقصى والمقاومة المسلحة في غزة للتستر على عجزهم بل وفسادهم وليحموا أنفسهم من أي مسؤولية ومحاسبة مستقبلية في حالة انهيار السلطة أو عودة حماس الى السلطة في غزة، أو إذا فرض طرف خارجي تشكيل حكومة توافقية فيمهدون للأمر ليكون لهم أو لأبنائهم مكان فيها، وآخرون ما زالوا تحت وقع قوة الصدمة وحالة الارتباك التي سببها طوفان الأقصى.
والملاحظ أن قيادات المنظمة وحركة فتح المؤيدين لطوفان الأقصى والمقاومة المسلحة في غزة نفسهم الذين قادوا حوارات المصالحة الأخيرة في تركيا وبكين وموسكو ويبدو أنهم اتفقوا على شيء واحد دون الإعلان عنه وهو إدارة الانقسام وسكوت كل طرف على ممارسات الطرف الثاني!
الأمر لا يقتصر على قيادات سياسية بل هناك ممن هم على رأس مؤسسات مجتمع مدني يتبنون موقف حماس حتى لا تُفتح ملفات فسادهم.
هذا التناقض في المواقف داخل المنظمة وحركة فتح يؤثر سلبا على مواقف أبناء المنظمة وحركة فتح ويجعلهم في حيرة بين التأييد والمعارضة للطوفان والمقاومة المسلحة كما تضعف ثقتهم بقيادات متناقضة في مواقفها وتجامل حركة سياسية روجت هي عنها واتهمتها أنها مرتبطة بأجندة خارجية ومعادية للمنظمة والشرعية ومنقلبة على السلطة.
أذا ما العمل وكيف يمكن الخروج من هذه المتاهة وإعادة بناء النظام السياسي والمشروع الوطني من جديد؟
ليس ما يرد أدناه تعصباً لحزب أو جماعة سياسية بل خلاصة لاستقراء تجربة العمل الوطني والمنعطفات التي مر بها ومحاولة إنصاف حركة سياسية لم تكن مجرد حزب بل تعبيرا عن هوية وثقافة وطنية وإرادة شعب قرر أن يشق طريقه ويستلم زمام أموره بنفسه بعد أن أصبح مهددا ليس فقط من العدو الصهيوني بل أيضا من الاقربين.
الثورة الفلسطينية المعاصرة انطلقت مع حركة فتح التي اعادت بناء منظمة التحرير عام 1969 وشكلت عمودها الفقري، ومن فكر الحركة ومبادئها وادبياتها الأولى تشكلت المفاهيم التي قامت عليها الثقافة والهوية الوطنية وتم تحديد الأهداف الوطنية الاستراتيجية والمرحلية وأصبح صوت الحق الفلسطيني مسموعا عبر العالم.
وبعد 60 عاما على انطلاقتها وما تعرضت له من مؤامرات وانشقاقات وما الحقت بنفسها من أضرار وتشوهات بسبب فساد بعض كبارها وتعالي وغرور آخرين على قاعدة الحركة وعلى الشعب أو بسبب الانزلاق لمتاهات مراهنة على تسويات سياسية متسرعة.
بعد كل ذلك وبالرغم من كل ذلك وبعد أن شاهدنا مصير كل من حاول معاداتها أو التموقع كبديل عنها أو عن المنظمة التي كانت الحركة بمثابة عمودها الفقري، تتطلع غالبية الشعب مجددا لحركة فتح عسى ولعل أن تجد عندها ما يُطمئن ويعطي أملا في هذه المرحلة العصيبة، ليس أملا بالتحرير والعودة كما كان هدف وشعار الحركة الأول، بل لإخراج الشعب من حالة اليأس والإحباط وفوضى تعدد الفصائل والأجندة الخارجية ووقف حرب الابادة على غزة، مما يساعد على وضع الشعب على طريق التحرير والعودة وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
الرهان على حركة فتح ليس رهاناً على تنظيم فتح أو أشخاص محددين أو قيادتها الحالية (اللجنة المركزية) بل على حركة فتح الفكرة الوطنية وعلى تيار عريض من منتسبي الحركة ومن المؤمنين بفكرتها الوطنية، وهذا التيار العريض يشمل المُبعدين عن تنظيم الحركة أو الذين ابعدوا أنفسهم عنه باختيارهم. ويشمل أيضا قطاعا كبيرا من الشعب وأبناء الأحزاب الأخرى المؤمنين بالفكرة الوطنية.
هذا لا يتناقض مع ما سبق وأن طالبنا به من ضرورة تغيير كل الطبقة السياسية ولكن التغيير لا يحصل بمجرد المطالبة به وإلى حين حدوث هذا التغيير من خلال انتخابات عامة لا يبدو أنها قريبة أو بأي فعل وطني جمعي، يمكن أن تكون نقطة الانطلاق للتغيير القاعدة الشعبية الوطنية العريضة لحركة فتح.
قد يقول قائل وأين منظمة التحرير الفلسطينية مما تتحدث عنه وقد كنت دائم الدفاع عنها؟
نعم دافعنا عن المنظمة وما زلنا في مواجهة محاولات العدو القضاء عليها واتهامها بالإرهاب وفي مواجهة حركة حماس التي تسعى للحلول محلها في تمثيل الشعب، ولكن وبكل صراحة المنظمة أصبحت اليوم مفرغة المضمون ومجرد ذكرى من الماضي وعنوان رمزي تم تجاوزه شعبيا وعربيا ودوليا منذ تبني خيار حل الدولتين وقيام السلطة الفلسطينية التي أُلحقت بها المنظمة وأصبحت هذه الأخيرة مجرد بند مالي في ميزانية السلطة تصرف عليها حسب شروطها وما تمليه عليها الالتزامات الدولية.
وحتى نكون أكثر وضوحا فإن منظمة التحرير الفلسطينية مستلبة من جماعات من داخلها، بعضهم تسلل لمواقع قيادية فيها وهيمنوا عليها وصادروا قرارها ولهم ارتباطات مشبوهة مع أطراف خارجية، وآخرون ممن اتعبتهم شيخوختهم وطول المسيرة ويخشون من أي تغيير او تجديد في المنظمة قد يفقدهم مناصبهم وامتيازاتها، وفئة ثالثة يرون أن زمن منظمة لتحرير فلسطين قد ولى والمرحلة مرحلة بناء الدولة والالتزام بالشرعية الدولية ونبذ العنف.
هذا لا يعني إطلاق رصاصة الرحمة على المنظمة، ولكن لا يمكن تعليق كل الحالة الوطنية إلى حين تفعيل مؤسساتها أو التوصل لتفاهمات مع من هم خارجها على الانضواء فيها، ومن هنا يأتي دور حركة فتح في استنهاض الحالة الوطنية وتصويب مسارها وإعادة بناء المنظمة على أسس جديدة كما جرى في الولادة الثانية للمنظمة عام 1969، وإن لم تستنهض حركة فتح نفسها وتستعيد دورها الريادي فلا أمل باستنهاض منظمة التحرير أو المراهنة عليها لا الآن ولا مستقبلا.