د. ابراهيم ابراش يكتب:
الثابت والمتغير في العلاقة بين المغرب وفلسطين
قبل أيام وتحديدا في الرابع والعشرين من يونيو وصلت من المملكة المغربية شحنة مساعدات طبية تُقدر بأربعين طناً الى مطار بن غوريون الإسرائيلي ومنه إلى مستشفيات غزة وهي فاتحة شحنات طبية ستصل لاحقاً، وسبقتها شحنات أخرى طبية وإغاثية خلال الأعوام السابقة وكان آخرها في شهر رمضان الماضي. هذه المساعدات جاءت بتعليمات سامية من الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس ومن ماله الخاص بعد أن تقاعست الدول الخمسة عشر المكونة للجنة القدس في القيام بواجبها بدفع ما عليها من استحقاقات للجنة القدس وبيت مال القدس.
هذا الأمر دفعني للعودة للكتابة مجدداً عن العلاقات المغربية الفلسطينية انطلاقاً مما عايشته ولمسته خلال 30 عاماً من إقامتي في المملكة المغربية، والكتابة مجددا عن مستقبل العلاقات العربية الفلسطينية المغربية في ظل التطبيع مع إسرائيل، وما هو الثابت في هذه العلاقات وما التحولات التي طرأت عليها وأسبابها.
بالرغم من حالة الغضب الشديد من المواقف السلبية للدول العربية تجاه حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني وهي مواقف غير مفهومة حتى الآن لا رسميا ولا شعبيا، يجب التنويه بداية أن كل الدول العربية رسمياً وشعبياً وقفت لجانب الشعب الفلسطيني وبأشكال دعم واسناد متفاوتة، من الدعم العسكري المباشر بالسلاح وفتح قواعد ومعسكرات تدريب للفدائيين والمقاتلين من كل الفصائل كما كان الحال مع الجزائر والعراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان واليمن والأردن قبل 1970، إلى الدعم السياسي والمالي كمصر ودول الخليج العربي وموريتانيا والمملكة المغربية.
كانت هذه العلاقات تتعرض للتوتر وأحياناً تنقلب للنقيض لأسباب متعددة، منها ما له علاقة بالدول العربية نفسها مثل الصراعات السياسية والأيديولوجية في العالم العربي ورغبة كل دولة في جر وتوظيف القضية الفلسطينية لصالحها نظراً للشعبية التي تحظى بها فلسطين عند الشعوب أو عندما تتغير أنظمة الحكم فيها أو نتيجة ضغوطات خارجية أو عندما تعتقد بعض الأنظمة أن الفلسطينيين أو بعض أحزابهم ينحازون لخصومهم السياسيين أو كما جرى عندما طبعت دول عربية علاقتها مع اسرائيل.
وأحيانا يتم اتهام الفلسطينيين بأنهم السبب في تحول مواقف العرب تجاههم. مثلا عندما تمردوا على محاولة بعض الأنظمة اخضاعهم للتبعية والوصاية، أو كما جرى بعد توقيع اتفاقية أوسلو والاعتراف بإسرائيل حيث انفض من حولهم كبيراً من الشعوب العربية حتى بعض الأنظمة، أو بسبب خلافاتهم الداخلية وانحياز بعضهم لأحلاف ومحاور تشكل تهديداً لبعض الدول العربية.
يمكن اعتبار المملكة المغربية الدولة الوحيدة التي قامت علاقتها مع القضية الفلسطينية على أسس عقلانية واحترام متبادل دون أن يكون للمغرب أي أهداف سياسية أو ايديولوجية من وراء مساندتها للشعب الفلسطيني، وهي علاقة تعود الى زمن مساهمة المغاربة في القتال الى جانب صلاح الدين الايوبي لتحرير القدس، وحي المغاربة وباب المغاربة في القدس ما زال شاهدا على عمق هذه العلاقات.
في الموقف من القضية الفلسطينية قليلة نقاط الاختلاف بين الموقف الشعبي والموقف الرسمي فالدعم والاسناد كان بعيدا عن الحسابات الحزبية الضيقة، وكل المغاربة يتوافقون على القضية الفلسطينية كتوافقهم على مغربية الصحراء. كان لسان حال المملكة القصية في غرب العالم العربي يقول للعرب والفلسطينيين قرروا ما تريدون ونحن نقف معكم.
فعندما دخلت مصر وسوريا في حرب أكتوبر 1973 أرسل المغرب جزءاً من جيشه بقيادة الجنرال الصفريوي للقتال على الجبهة السورية واستشهد هناك عشرات المغاربة، كما استضاف المغرب العديد من مؤتمرات القمة العربية والإسلامية منها قمة الرباط 1974 التي تم فيها الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. وفي الرباط تم انعقاد أول قمة إسلامية في سبتمبر 1969 رداً على حرق يهودي متطرف للمسجد الأقصى وفي هذه القمة تم تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضم 57 دولة، وفي عام 1975 تأسست لجنة القدس وأسندت رئاستها إلى المرحوم الملك الحسن الثاني وفي عام 1999 انتقلت رئاستها للملك محمد السادس، كما استمر المغرب الرسمي في دعم كل القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية في المحافل الدولية.
وشعبياً استمرت الجمعية المغربية لمساندة كفاح الشعب الفلسطيني بالعمل منذ تأسيسها عام 1968 إلى اليوم، وهي تجمُع لكل الأحزاب والنقابات وشخصيات وطنية من كل التوجهات السياسية، وكان على رأسها شخصيات وطنية مرموقة كالمرحوم أبو بكر القادري ثم المحامي خالد السفياني ومن بعده بن جلون، بينما توقفت عن العمل غالبية الجمعيات العربية التي تأسست معها. كما شهدت شوارع المدن المغربية أضخم المظاهرات المساندة للشعب الفلسطيني والمنددة بالعدوان على العراق واحتلاله من الأميركان، كما تطوع المئات من الشباب المغربي للقتال في صفوف الثورة الفلسطينية.
بالرغم من تطبيع المغرب لعلاقاته مع اسرائيل إلا أن ذلك لم يؤثر كثيرا على مكانة فلسطين عند المغاربة، وقد اتصل العاهل المغربي محمد السادس بالرئيس أبو مازن مؤكدا أن تطبيع المغرب لن يؤثر على العلاقات الأخوية بين الشعبين الفلسطيني والمغربي. وبعد أشهر قليلة من تطبيع المغرب وإسرائيل قام إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس على رأس وقد قيادي كبير بزيارة المملكة وفي تصريحاته الإعلامية شكر هنية صاحب الجلالة على دعمه للشعب الفلسطيني دون التطرق للتطبيع.
كل ما سبق لا ينفي حقيقة وجود فتور وتراجع في العلاقات الفلسطينية العربية بشكل عام رسميا وشعبيا وتزايد عدد الأصوات والمنابر التي تسعى لقطع علاقة فلسطين بالعالم العربي، وقد تأكد هذا خلال حرب الإبادة على غزة غير المسبوقة في إجرامها. وإن كان للفلسطينيين التعبير عن استيائهم وغضبهم من سلبية المواقف العربية مما يجري في غزة والضفة، إلا أن عليهم في نفس الوقت إدراك أن العالم يتغير بما فيه العالم العربي حيث المصالح الوطنية ومتطلبات الحفاظ على الأمن القومي لكل بلد أصبح لها الأولوية على أي اعتبارات سياسية أو أيديولوجية تنبني على رابطة الدين أو العروبة أو غيرها، وهذا يفرض تحديا على الشعب الفلسطيني والقوى المساندة له أن يتعاملوا مع هذا الواقع العربي الجديد بما فيها الدول المطبعة مع إسرائيل والتي لا يبدو أنها ستتحلل من علاقة التطبيع في المدى القريب.
ونعتقد أن تميز وعمق العلاقات المغربية الفلسطينية ووجود الملك محمد السادس على رأس لجنة القدس ومبادرته الأخيرة بإرسال مساعدات طبية واغاثية لغزة والقدس، يمكنها أن تؤسس نموذجا لنمط جديد من العلاقات العربية الفلسطينية في ظل التطبيع مع إسرائيل. وقد سبق أن كتبنا مقالا بعنوان "طبعوا إن شئتم ولكن ليس على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني" لقناعتي بأن التطبيع قرار سيادي لكل دولة وشعبها وليس من حق الفلسطينيين التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية الشقيقة.