فاروق يوسف يكتب:
غزة الفلسطينية تعود إلى الهامها المصري
استغربَ الكثيرون أن تُظهر مصر اهتماما لافتا بغزة بعد أن تعرضت للعدوان الإسرائيلي. يعود ذلك الاستغراب إلى أن العلاقة بين مصر وحركة حماس ليست جيدة إذا لم نقل سيئة. ومن الطبيعي أن تكون سيئة بعدما أظهرته حركة المقاومة الإسلامية من عداء سافر لمصر بعد أن تم اسقاط حكم الاخوان الذين كانت صلتهم العقائدية قد سمحت لحماس بالتدخل العلني في شؤون مصر الداخلية.
غير أن الامر بالنسبة لمصر ليس بذلك الضيق. أولا لأن غزة، وهي كبرى المدن الفلسطينية من جهة عدد السكان، ليست حماس. ثانيا لأن غزة مصرية مثلما هي فلسطينية. ما بين عامي 1948 و1967 كانت غزة تحت الإشراف المصري. ولد الكثير من أبناء غزة وهم ينظرون إلى القاهرة باعتبارها هدفهم حين يرغبون في العلم والعمل والسكن وتكوين أسرة والسفر. كانت عاصمة الأمل والتفاؤل التي سبق لها أن شهدت ولادة قائد ثورتهم ياسر عرفات الذي هو الآخر من عائلة غزاوية.
وفي الختام فليس لغزة سوى مصر. ذلك قدرها المزدوج جغرافيا وتاريخيا. وإذا ما خيرت حركة حماس فإنها تفضل اللجوء إلى الخيار الإسرائيلي انطلاقا من موقف جماعة الاخوان المسلمين المناهض للعرب فإن ذلك الخيار لن يكون متاحا دائما. فبعد حرب مدمرة استعملت فيها حماس مئات الصواريخ الإيرانية لضرب الداخل الإسرائيلي ليس في إمكان أية حكومة إسرائيلية أن تُظهر تعاطفها مع سكان غزة وتفتح أمامهم المعابر. حينها ستكون السخرية مريرة وستفقد المسرحية كل أركان مصداقيتها.
حين تدخلت مصر من أجل وقف الحرب في غزة كانت الولايات المتحدة عازمة على الاستمرار في دعمها لحكومة نتنياهو الرافضة لمشاريع وقف اطلاق النار. كان الدرس المصري يومها بليغا. وكما أعتقد فإن بلاغة ذلك الدرس انما تشير إلى الضرورة المصرية في المنطقة. لقد استعادت مصر شيئا عظيما من مكانتها بعد سقوط حكم الاخوان. ما فقدته مصر تدريجيا ومنذ وفاة الرئيس جمال عبدالناصر صارت تستعيده بسرعة بعد أن التفتت إلى مكانتها باعتبارها دولة مركزية في المنطقة. كان الموقف المصري مؤثرا في الدفع إلى عملية السلام في ليبيا ومنع تركيا من العبث بأمن الشعب الليبي. ولولا الموقف المصري الصلب والمتحدي لكانت خسائر أهل غزة أضعاف ما خسروه. ولكانت حركة حماس بالتأكيد قد فقدت أنفاقا مضافة. لا أحد في إمكانه أن يتساءل عن نفع تلك الانفاق على مستوى تحرير فلسطين وإلا أتهم بخيانة المقاومة وخذلانها وقد يُدفع به إلى موقع أسوأ.
لتحتفظ حماس بأنفاقها فحياة أهل غزة هي الأهم. ولكنها تظل حياة ناقصة بل ومؤجلة. فالنصر الالهي هو عبارة عن محطة بين مسارين. مسار الحرب الذي دفع تكلفته أهل الغزة الذين سيدفعون أيضا تكلفة مسار ما بعد تلك الحرب حيث المنتصرون يجوبون شوارع غزة وهم يهللون لعرسهم فيما النواح يملأ البيوت حزنا. كان التعامل مع حركة حماس أصعب من التعامل مع حكومة نتنياهو غير أن مصر نجحت في أن تتخطى عقدة التفوق لدى إسلاميي غزة وتفرض سلاما كانت الولايات المتحدة ترغب في تأجيله.
سيُقال إن مصر قامت بواجبها إزاء غزة التي تحمل الكثير من عاطفتها. غزة المصرية لا تزال تقيم في الوجدان السياسي المصري. اما أن تبدأ الشركات المصرية بالاعمار تحت مظلة نصف مليار دولار خصصتها مصر لإعادة إعمار غزة هو ما يمكن أن يكون صادما لمَن لم يتعرف بعد على الأبعاد الخفية التي ينطوي عليها وجود غزة باعتبارها جيبا اخوانيا في القضية الفلسطينية بعد أن استولت حماس عليها وجعلت من أهلها رهائن.
أخطأ الشعب الفلسطيني حين انتخب حماس ذات مرة فهي ليست حركة مقاومة فلسطينية. وهي إذ ترفع شعار المقاومة الإسلامية فلأنها لا ترى في فلسطين وطنا بل تراها جزءا من أرض الله الواسعة. أما وقد صارت تلك الحركة قدرا فلم يكن أمام مصر سوى التعامل معها من أجل حماية غزة وأهلها. لذلك فإن ما فعلته مصر بدءا من التدخل لوقف الحرب إلى الشروع بالإعمار انما يعبر عن مكانة مصر باعتبارها قوة إقليمية في المنطقة وهو ما يزعج حركة حماس في جيبها الاخواني بغزة.
مصر ملأت مجالها الحيوي. وهي إذ تقف في مواجهة إسرائيل في غزة فإنها في الوقت نفسه قد نجحت في ردم الهوة التي صنعتها حماس بينها وبين غزة التي ينبغي أن تعود إلى سابق سيرتها فلسطينية مصرية.