د. ساسين عساف يكتب:

مشروع النهوض العربي وثقافة النهوض الأوروبي

ثقافة النهوض الأوروبي ثقافة إستعمارية وفدت إلى مجتمعاتنا العربية مع حركتي الإستشراق والتبشير وحملة بونابرت على مصر فأحدثت تغييرات في الحياة  الثقافية وأيقظت العقل العربي على مفاهيم ومناهج فكرية وحقائق علمية ومعرفية لم يكن على دراية كافية بها أو كان غافلاً عنها بحكم إخضاعه للثقافة العثمانية على امتداد قرون تمّ فيها بتره عن أصوله.

العقلانية الديكارتية مهّدت لفكرة الإستعمار في تحضير الشعوب وعقلنة ثقافاتها وتنظيماتها السياسية والإدارية والإجتماعية والإقتصادية.  فالإستعمار، بهذا المعنى الإستشراقي التبشيري، يقدّم نفسه للشعوب التي هي في طور النمو رسالة تنويرية.

عقلانية ديكارت وسبينوزا وكانط وهيجل شكّلت إيديولوجيا الإستعمار الغربي الذي جسّدته الدولة الأوروبية الصناعية العلمانية الحديثة.

هذه الايديولوجيا قوّضتها لاحقاً الماركسية والفرويدية ونظريات أوغوست كونت وآميل دوركهايم في علم الإجتماع الثقافي، وهي نظريات أظهرت أنّ العقلانية الأوروبية ليست نموذجاً صالحاً للتعميم كما ادّعت الثقافة الاستعمارية بل ثمّة خصوصيات ثقافية آسيوية وأفريقية وعربية لها الحقّ في الوجود والنموّ والإستمرار بعيداً من مركزية العقل الأوروبي وشهواته التدميرية والاستقطابية.

ديكارت هو بداية التحوّل في مسار الفلسفة الأوروبية الحديثة التي قامت على نزعة التمركز حول الذات الغربية. وهي نزعة قائمة على أساس التفاوت بين الغرب المتقدّم ثقافياً والعالم المتخلّف.

هيجل، بدوره، أسهم في تغذية هذه النزعة الاستعلائية للذات الغربية.

هذا،  فضلاً عن الثورة العقلية التي أحدثها ديكارت والتي أنتجت " فلسفة الأنوار" و الاتّجاه العلماني القائل بفصل الدولة عن الدين وتقليص دور الكنيسة ورجال الدين في الشؤون السياسية.

فكرة التحرّر من سلطة الاقطاع الديني والزمني ومن دوغمائيات وتابوات القرون الوسطى شكّلت الأساس في أدبيات عصر النّهضة الأوروبية.

ثقافة النهوض الأوروبي اتّسمت بالشمولية: شهدت أوروبا نهوضاً سياسياً في مستوى الوعي الوطني والقومي والأنظمة السياسية وأجهزة الحكم ومفهوم المؤسسات والدولة، فانهارت السلطة المزدوجة التي كان يمارسها البابوات والملوك إستناداً إلى نظرية الحقّ الإلهي أمام تنامي الشعور القومي وتجذّر مفهوم الدولة والسيادة الشعبية.

ماكيافيللي (1469-1527) في كتاب "الأمير" دعا إلى إبعاد الكنيسة عن ممارسة السلطة الزمنية. فلسفة بوسّويه (1627-1704) البارزة في كتابه " السياسة المستمدّة من الكتاب المقدّس " والداعية الى تأييد سلطة لويس الرابع عشر باعتباره يحكم بتفويض إلهي إنهارت أمام " فلسفة الأنوار" التي أدّت إلى إسقاط الباستيل ومهاجمة الملك في فرساي وتشكيل الحرس الوطني لحماية الثورة فشهدت فرنسا نهوضاً إجتماعياً في مستوى البنى والأنظمة والقيم والأنساق والمؤسسات المدنية والخدمات وعلاقات أبناء النسيج الاجتماعي الواحد، وشهدت نهوضاً إقتصادياً في مستوى المعيشة وقوى الإنتاج والعمران والبناء والمواصلات والغذاء والعمل والإسكان والصحّة والتعليم والخدمات والتوظيفات وإدارة المجتمع والدولة، وشهدت نهوضاً ثقافياً في مستوى نموّ العقل والمعارف في حقول الفكر والعلم والأدب والفنّ والصحافة والجماليات والتكنولوجيا.

ثقافة النهوض الأوروبي إستندت إلى مرجعيات إيديولوجية قادها منهج عقلاني/تجريبي ينبذ الأوهام واللاّهوت الأسطوري  من مثل الليبرالية والإنسانوية والفاشية والإشتراكية والفردانية والعلمانية والعلموية والواقعية والماكيافيللية. هذه الايديولوجيات وفّرت لثقافة النهوض الأوروبي دينامية التغيير في المفاهيم الفكرية والأوضاع الإقتصادية/الإجتماعية فانهارت السلطة الدينية/الروحية أمام وعي الفرد/الإنسان لشخصه وحقوقه، وأمام وعي الجماعة لهويتها القومية، وانهارت سلطة الملوك المطلقة أمام وعي الشعب لحقّه في أن يحكم نفسه بنفسه، وانهارت الدوغمائية الدينية أمام ثورات التحرّر وانطلاق الفكر النقدي والمساءلة العقلية.

أمّا في المجال الإقتصادي/الإجتماعي فقد انهارت الإقطاعية أمام تشكّل الطبقة البورجوازية النامية، وانهارت سلطة الإستغلال والتهميش والإحتكار أمام قوانين إقتصادية تحدّد علاقة المواطنين بالدولة، وأمام النموّ الصناعي والإنتاج السلعي والتوسّع التجاري والأسواق الجديدة، وانهارت، تالياً، طبقة النّبلاء أمام نموّ الطبقة البورجوازية الصّغرى فتبدّل نظام القيم والعلائق والأخلاق والأذواق.

ثقافة النهوض الأوروبي، إذاً، قادتها "فلسفة الأنوار". وهي ثورة فكرية شاملة وضعت الدين والسياسة والإقتصاد والثقافة في دائرة النقد على قاعدة إسقاط نظرية الحقّ الإلهي في تكوين السلطة السياسية وممارسة الحكم، والمطالبة بسيادة الشعب وإقامة العدل وصيانة حقوق الانسان خصوصاً حقوقه في الحرّية وفي التملّك، وإحلال العقل في بناء المعرفة محلّ الوحي. فجعلت الإنسان الحرّ المحور والقضية والقيمة العليا.

من روّاد فلسفة الأنوار صاحب المنهج التجريبي الفيلسوف الانكليزي لوك (1632-1704) الذي وضع كتاباً بعنوان "رسالتان في الحكم المدني". دعا في هذا الكتاب إلى مناهضة الإستبداد والحكم المطلق ونزع الصفة الإلهية عن حكم الملوك، وإلى إقامة أنظمة حكم تستمدّ شرعيتها من الموافقة الشعبية، وإلى وجوب إحترام الدولة للحرية الفردية فالدولة مسؤولة عن حماية الحرية، وشرط حماية الحرية هو فصل السلطات لأنّ جمع السلطات بيد واحدة يغري بالتسلّط. لذلك أقام في الدولة سلطتين: سلطة تشريعية، وهي أعلى سلطة في الدولة، ولا تعلو عليها سوى سلطة الشعب، وهي سلطة مؤتمنة يحاسبها الشعب على حسن الإئتمان أو عدمه. وسلطة تنفيذية تسهر على تنفيذ القوانين، ومن ضمنها قضاء مسؤول عن سلطة القانون. ويسوّغ لوك في هذا الكتاب الثورة الشعبية ويعتبرها حقّاً مقدّساً عندما يفقد الشعب ثقته بالسلطة السياسية القائمة. ويفهم العلاقة بين الانسان وربّه علاقة خاصّة ويرى إلى الكنيسة مجتمعاً إختيارياً، ولا سلطة روحية أو زمنية لها على الناس.

أفكار لوك بثّت الوعي السياسي والديني في المجتمع الأوروبي وكوّنت أهمّ المصادر الرئيسة لفلسفة الأنوار الفرنسية.

ومن روّاد "فلسفة الأنوار" المفكّر الفرنسي فولتير (1694-1778) نقرأ أفكاره التنويرية في "الرسائل الفلسفية". فيها يهاجم التعصّب الديني، ويحارب الفساد والإستبداد، ويدعو إلى حرية التعبير والعقيدة، ويندّد بالنّظام الملكي المستبدّ والاقطاع ومفاسد رجال الدين، ويجهر بالعقلانية والواقعية والفكر النقدي، ويشجب الإمتيازات الإجتماعية ونظام الضرائب، ويثور على الطبقة العليا.

ومن روّاد هذه الفلسفة، كذلك، مونتسكيو (1689-1755) الفيلسوف الفرنسي الذي وضع "روح الشرائع". في هذا الكتاب يمجّد الحرية كونها حقّاً طبيعياً للإنسان، وينبذ الإستبداد لأنّ الحكم الفردي لا يحقّق السّلم الإجتماعي، ويدعو إلى فصل السلطات لأنّه يضمن العدالة ويحمي حرية المواطن السياسية، ويرى أنّه عند اجتماع السلطتين التشريعية والتنفيذية بيد شخص واحد حاكم أو هيئة واحدة حاكمة تنتهي الحرية، ويرى أنّ سرّ بقاء الدولة هو بالتوازن بين السلطات، وركّز على أهمّية السلطة القضائية المستقلّة صوناً للحرية والدستور.

أفكار مونتسكيو التنويرية كان لها الأثر البالغ في رجال الثورة الفرنسية.

ومن روّاد "فلسفة الأنوار"، كذلك، روسّو (1712-1778) صاحب " العقد الإجتماعي ". يضع في هذا الكتاب قانوناً ثابتاً لمجتمع مدني تتكرّس فيه حقوق الإنسان الطبيعية خصوصاً الحرية والمساواة، ويدين السلطة التي لا تستند إلى الإرادة العامة بل إلى القوّة، ويجعل العقود أساس كلّ سلطة شرعية بين الناس، والعقود هذه تساوي الجميع في الشروط وتلزم، في المجتمع السياسي، الجميع بطاعة القوانين، وبهذا تنتقل العقود بالإنسان من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، من الإرادة الخاصة إلى الإرادة العامة، من الحرية المتفلّتة إلى الحرية المنضبطة بقانون. وبهذا يحقّق الإنسان إجتماعيته. الإرادة العامة هي المعبّر عن الخير العام. فالاقتراع وقرارات الأكثرية هما وسيلة لتظهير الإرادة العامة. والسيادة هي في ممارسة الإرادة العامة. الشّعب هو صاحب السيادة الوحيد. والسيادة غير قابلة للتنازل.

 

هذه الأفكار التنويرية خصوصاً الأفكار التي أطلقتها حركة الإصلاح الديني شجّعت على تكوين تيّار فكري إصلاحي عربي سعى إلى تجديد الرسالة الإسلامية، فحاول مفكّرو التجديد الإسلامي في القرن التاسع عشر إختراق التقليدية الطقوسية والقواعد الفقهية التي تقيم تناقضاً بين العقل والإيمان. عاد هؤلاء إلى منهج إبن رشد في التوفيق بينهما.

إذا كان إبن رشد هو مرجعية التجديد في الفكر الديني الإسلامي،وإذا كان توما الأكويني مرجعية التجديد في الفكر الديني المسيحي، فإنّ التجديد في ثقافة النهوض الأوروبي والتجديد في مشروع النهوض العربي يلتقيان فوق مساحات مشتركة لأنّ الأكويني وإبن رشد يلتقيان فوق مساحات مثيلة. وإذا كان الإصلاح الديني قد نجح في ثقافة النهوض الأوروبي لاعتبارات خارجة عن طبيعة الدين (نموّ الطبقة البورجوازية مثلاً ) فإنّ الإصلاح الديني في مشروع النهوض العربي وقفت دونه عقبات كثيرة، ذاتية وموضوعية.

الإصلاحيون أمثال محمّد عبدو، ورشيد رضا، ومفكّرو "الجامعة الإسلامية"، على اختلاف مواقعهم وتعبيراتهم الفكرية لم يتمكّنوا من جعل ثقافة الإصلاح الديني تسيطر على الواقع العربي فظلّ هذا الواقع أسير التقليدية الطقوسية أو أسير الشكل الاسلامي المجوّف وغير القادر، تالياً، على التعامل مع ثقافة النهوض الأوروبي  من موقع الندّية.

ثقافة النهوض الأوروبي استطاعت أن تقيم فصلاً موضوعياً بين العقل والإيمان وانتهت إلى تغليب العقلانية الصافية والصارمة على الإيمان الدوغماتي المغلق في ميادين الفكر العام، وإلى تغليب العلمانية في الميدان السياسي، وإلى تغليب الواقعية التجريبية في الحقل العلمي، في حين أنّ  مشروع النّهوض العربي لم يتخلّص من مظاهر الثقافة القديمة المعبّر عنها بأشكال تقليدية في ممارسة بعض الطقوس والعبادات والإعتقادات الدينية، فالأساس الإجتماعي العربي كان أقوى من محاولات الإصلاحيين. فاعلية التغيير في كلّ مشروع نهضوي يجب أن تتوافر وتتحرّك في الأساس الإجتماعي.

إنّ ثقافة التبنّي والتنميط لا تحدث التغيير، فالنّموذج النهضوي الأوروبي في جميع أبعاده وقيمه (الحرية، الفردية، العلوم، الديموقراطية...) يعجز عن إلغاء الأساس الإجتماعي لخصوصيات المجتمعات العربية، ومن هذه الخصوصيات تحديداً رفض الكلام على وضع الإيمان موضع شكّ أو تساؤل أو فصل العقل عن الإيمان أو جعل العقل هو الفيصل في شؤون الدنيا كافة.

معظم التأويلات النهضوية في مشروع النهوض العربي مرتبطة بثقافة التبنّي والتنميط.

ثقافة النهوض الأوروبي تشكّلت على نحو جنيني في بدايات القرن الخامس عشر ومرّت في مخاض تاريخي طويل قبل أن تحدث في المجتمعات الأوروبية تحوّلات نوعية. أمّا ثقافة مشروع النهوض العربي فكانت سريعة التشكّل باتّباع منهج التبنّي والتنميط، فتعذّر استبيان خطّها التاريخي في سياق نموّها الذاتي إنطلاقاً من خصوصيات الأساس الإجتماعي. الطهطاوي والشميّل وفرح أنطون وقاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي ولاحقاً طه حسين وغيرهم تأثّروا بأطروحات النهوض الأوروبي ورأوا الحداثة إلتحاقاً بركبه الحضاري واتّبعوا منهج التبنّي والتنميط، لكنّهم لم يتمكّنوا من إحداث التغيير في الأساس الإجتماعي الذي ظلّ أقوى من محاولات منهجهم في النهوض الحضاري.

ثقافة النهوض الأوروبي ليست مفهوماً نظرياً مركّباً من مجموعة قيم وأفكار. إنّها بنية محسوسة امتلكت الوقائع وحوّلتها. وهذا ما أعطاها فاعليتها التاريخية من حيث هو فعل تغييري شامل. أمّا ثقافة مشروع النهوض العربي  فقدّمت نفسها عبر مسارها التاريخي الطويل بنية ذهنية ثابتة منفصلة عن الوقائع المادية وقوّتها التغييرية. هذا الانفصال أدّى إلى إحداث بعض التغييرات الشكلية، وخير مثال على ذلك دولة محمّد علي:

لقد استوحى محمّد علي نماذج الغرب على صعيد بناء الدولة ولكن التغيير لم يحدث في الأساس الاجتماعي (الفكري/الثقافي)  ما أدّى إلى الفصل بين الدولة وقواها الإجتماعية ومرجعيتها الفكرية أو إلى دولة حديثة من دون مجتمع حديث وفكر حديث. وهذه واحدة من إشكاليات بناء الدولة الحديثة في الوطن العربي!..

الثورة الفرنسية شكّلت الحدّ التاريخي الفاصل بين الزمن القديم والزمن الحديث في أوروبا. أفكارها في الحرية والعدالة والمساواة أنتجت التغيير النوعي في التاريخ الأوروبي: الثورة العلمية، الإصلاح الديني، الإصلاح السياسي، نشوء الرأسمالية وتطوير قوى الإنتاج، نشوء الليبرالية والإعتراف بتعدّدية الأبعاد للشّخصية الإنسانية. أمّا مشروع النهوض العربي فلم يعرف ثورة شكّلت الحدّ الفاصل في التاريخ العربي بين قديمه وحديثه فبقي زمناً واحداً هو الزّمن المستعاد والمستحضر، الزمن القديم والثابت، زمن التلقّي والاستنكاف عن الفعل.

لهذا يبدو لنا الزمن العربي زمناً غير ثوري وغير إنقلابي. شهد بعض التحوّلات بفعل مكوّنات ذاتية وموضوعية، هذا صحيح، ولكنّه لم يعرف الثورة في المعرفة والمفاهيم والقيم والأخلاق والسياسة والاقتصاد والعلم والآداب والفنون. الزمن العربي لم يقحم الثورة في سياقه التاريخي. الاسلام هو ثورته الكبرى والوحيدة والمستمرّة.

في القرن التاسع عشر شهد محاولات شحنه بمضمون حضاري/ إنساني على قاعدة ما صدّرته ثقافة النهوض الأوروبي. فكتب رفاعة الطهطاوي في النّصف الأوّل من هذا القرن: "إنّ أمّة ما تتكوّن على قاعدة الفكر والحرّية والوحدة.." وهذه واحدة من محاولات الإقتراب من الفكر الثوري/ الليبرالي الذي اخترق المجال العربي آتياً مع الاستعمار وممهّداته التبشيرية. من "أمّة الوحي" إلى "أمّة الفكر" تمتدّ مساحة النّقلة النوعية/الثورية التي أقدم عليها الطهطاوي، ولعلّها الأكثر ثوريّة في الفكر العربي/النّهضوي. ووجه الثوريّة فيها هو الدّعوة إلى الانخراط في حركة التاريخ أي في خطّ الآتي. والدّعوة هذه تناقض الدّعوة السّلفيّة الدّاعية إلى البقاء في دائرة الماضي، وبالانفصال عن التاريخ. فكرة الطهطاوي شكّلت الأساس النّظري لمشروع النهوض العربي وقدّمت الإطار المرجعي الجامع لأبرز مفكّري القرن التاسع عشر، تحديداً فرح أنطون وشبلي الشميّل.

الدّخول في الزّمن الحديث، في خطّ الآتي، على قاعدة ايجاد البدائل الفكرية للفكر السّلفي، هو محور المحاولات النّظريّة التي شهدها القرن التاّسع عشر. ولمّا يزل هو نفسه محور المحاولات الرّاهنة. فالإشكاليّة، إذاً، هي تاريخية. وهي تبقى مطروحة. ولكن، مأزق مشروع النهوض العربي هو اقتناع أصحابه بعقلانية ثقافة النهوض الأوروبي وعلمانيته وحداثته وتقدّميّته في العلم والمعرفة من جهة، وهو رفضهم لعدوانيّتها الإستعمارية من جهة أخرى. بين هذين الحدّين قام سجال فكري حسمته حركة الواقع السياسي بتحجيم ثوريّة المشروع وإضعاف موقعه وتهميش دوره. فعاد الكلام قويّاً على ثقافة نهوض أوروبي أمست من زمن بعيد وغريب عن حاضر الغرب وممارساته السياسية. فأوروبا تبدع الأفكار العظيمة ولكنّها تعجز عن تجسيدها فتنتج ما يناقضها. مشروع النهوض العربي في جوانب منه هو من هذا النتاج النقيض فبدا حركة إرتدادية في وجه أوروبا العاجزة عن تجسيد أفكارها.

ثقافة النهوض الأوروبي إنطلقت من المجال الديني من أفكار ثورية بروتستنتية (لوثر وكالفن) نقدية للمسيحية الغربية، ومن لاهوت متحرّر من كنيستها التي أمست مؤسّسة كسائر مؤسسات المجتمع. وهذا ما أحدثت في المجتمعات الأوروبية إنقلاباً معرفياً هائلاً لإسقاط نظرية الوحي المسيحية الوسيطة. هذا الانقلاب مهّد للأفكار الثورية التنويرية في مواجهة السلطة الكنسية.

أمّا مشروع النهوض العربي فأقصى ما استطاع بلوغه في المجال الديني هو الإجتهاد في حدود النصّ. فبقي الدين مؤسسة المجتمع الأولى، أمّ المؤسسات، وربّما الوحيدة المتحكّمة بسائر المؤسسات المجتمع بما فيها مؤسسة الدولة.

علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وطه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" حاولا إحلال الديموقراطية والعقد الإجتماعي بدلاً من الأوتوقراطية والحقّ الإلهي في الحكم، وتكريس حقّ الشكّ بالحقائق بدلاً من التسليم بها فصدما لأنّ "الثقافة الدينية العثمانية" كانت قد رسّخت الحكم التيوقراطي وألقت عليه عباءة دينية واسعة تمنع الإجتهاد. وبعد زوالها كان قد ترسّخ في المجتمعات العربية، في بنياتها الإجتماعية والثقافية، المنحى التيوقراطي في قيادة المجتمع والدولة. الثقافة العثمانية أوجدت فجوة تاريخية معرفية واسعة بين الثقافة العربية في عصورها الزاهية والعصر الذي انطلق فيه مشروع النهوض العربي فلم يتمكّن هذا المشروع من التواصل الطبيعي والتراكمي مع ما حقّقه "الثوريوّن" في العصرين الأموي والعباسي.

الثقافة العثمانية وممارساتها الدينية الطقوسية لاشت  الثقافة العربية  وأفقدتها خصوصيتها الدينية وفصلتها عن جذورها الاجتهادية فجاءتها ثقافة النهوض الأوروبي وهي متخلّفة ومكشوفة ومن دون قاعدة معرفية صلبة لمواجهتها ما مكّن هذا الوافد من إخضاعها لعمليات "تحديثية" في الفكر والدين غريبة عن أصولها وأطوارها، لذلك بدت العلمنة والعقلانية أصواتاً من خارج سياقها الأصلي.

مشروع النهوض العربي حاول أن يستعيد مناهج الإجتهاد التي عرفها في عصوره الأولى والوسيطة مستعيناً ببعض أفكار الإصلاح الديني الأوروبي ومناهجه فوقع، نتيجة تلك المحاولة، في مواجهة مع ثقافة المجتمع الديني العثماني التي كانت قد أعلنت الأمبراطورية العثمانية أمبراطورية مقدّسة ورسّخت إيديولوجيتها الدينية إيديولوجيا ثابتة في المجتمع والدولة. وهذه المواجهة هي  واحدة من أبرز إشكاليات الفكر الديني  التغييري أو الإصلاحي في مشروع النهوض العربي.  

الايديولوجيا الثابتة والكامنة في اللاّوعي الجماعي مالت بميزان القوى الاجتماعية/الثقافية ناحية التمسّك بالحكم التيوقراطي أو عدم استقلال الدين عن الدولة أو استقلال الدولة عن الدين.. 

مشروع النهوض العربي تجربة إحيائية/تحديثية ابتغت أمرين: تأصيل الاسلام وتحديثه.

هذه واحدة من "إبتغاءات" المشروع في المسألة الدينية، وهي نقيض الكلام بعدم قابلية الإسلام للتطوّر في اتّجاه "الحداثة " على الصعيدين الفكري والإيماني.

لقد حاولت هذه التجربة أن تعطي الزمان أهمية موازية لأهمية الأبدية، وأن تعيد المؤمن الى داخل النسبية التاريخية والحركة التاريخية، وأن تجعل المجتمع المؤمن متحرّكاً لا ثابتاً في انتظاره ليوم الحشر.

هذه التجربة في أقصى إنزياحاتها العقلانية إنتهت إلى وضع العقل العربي أمام إشكالية قديمة ومتجدّدة، إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة.

وهي إشكالية من أبرز إشكاليات مشروع النهوض العربي التي شكّلت وما زالت تشكّل مروحة نقاش واسعة مستمرّة حتى اليوم.