سجعان قزي يكتب:
جزء الحل في لبنان إكراه وجزؤه حوار
حبذا لو يقول الرئيس عون ما قاله الرئيس الأميركي بايدن "إن إرسال إيران سلاحا متطورا إلى حزب الله هو انتهاك لسيادة لبنان وضرب لاستقراره". وحبذا لو يدعو الرئيس عون مجلس الأمن الدولي إلى الانعقاد في نيويورك لإنقاذ لبنان عوض ممارسة هواية دعوة مجلس الأمن المركزي دوريا إلى اجتماعات عقيمة في بعبدا.
مع كل الحراك الدولي المستجد حول لبنان، بما فيه الموقف الأميركي المتقدم، لم تبادر، بعد، أي دولة صديقة للبنان، ولا الأمين العام للأمم المتحدة، إلى دعوة مجلس الأمن الدولي إلى الانعقاد في جلسة خاصة حول لبنان. جميع الدول تتبارى في النحيب على لبنان واستفظاع وضعه: منها من اعتبرته على شفير الإفلاس التام، ومنها من قدرت اختفاءه، ومنها من قارنته بالصومال، ومنها من توقعت دخوله في حرب أهلية جديدة، ومنها من تنبأت بتقسيمه، ومنها من ضبطته عبر جهاز الـــ "جي پي إس" متجها نحو جهنم. أما البنك الدولي فوصف أزمة لبنان بأنها "بين أكبر ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر"، إلخ...
رغم ذلك، وباستثناء دول صديقة قليلة جدا، لا يزال العالم يتفرج علينا ولا يميز بين المجموعة الحاكمة والشعب. إذا كانت أزمة بهذه الخطورة لا تستحق اجتماع مجلس الأمن، فأي أزمة أخرى تستحق ذلك؟ لماذا أنشئ مجلس الأمن؟ وما هو دوره؟ وما هي معايير تدخله؟ إن المادة 24 من شرعة الأمم المتحدة تجيز لمجلس الأمن الدولي أن يجتمع ويقرر "عملا سريعا وفعالا" للحفاظ على السلام. كما أن المادة 39 من هذه الشرعة أشارت إلى الحالات التي تشكل تهديدا محتملا أو عاما للسلام الدولي أو الإقليمي أو الداخلي، ومنها: "اعتداء خارجي، أو أحداث داخلية، أو أعمال إرهابية، أو عمليات تهريب منتظمة للأسلحة حتى لو كانت أسلحة خفيفة". أليس لدينا في لبنان شيء من كل هذه الأشياء علاوة على الوضع الإنساني وتفكك جميع مؤسسات الدولة الشرعية؟ وألـم يعتبر الرئيس الأميركي أن وضع لبنان يشكل خطرا على الأمن القومي الأميركي" (20 تموز/يوليو)؟
إذا كان تريث مجلس الأمن في الانعقاد يرجع إلى انتظار مفعول عقوبات بعض الدول على إيران وحزب الله وحلفائهم اللبنانيين، فلا فائدة ترجى من هذا الانتظار لأن المعاقبين لم يضعفوا ولم يتأثروا، لا بل زادوا سطوة وعنادا. وإذا كان تريثه يعود إلى عدم توافر إجماع بين الدول الخمس لمعالجة الوضع اللبناني، فليجتمع، ولتنكشف المواقف، فنعرف أصدقاء لبنان من أخصامه في الشرق والغرب. وإذا كان مرد هذا التريث إلى أن العالم ــــ بمن فيه الأصدقاء ــــ ينتظر الارتطام اللبناني الكبير، فالتلذذ برؤية شعب يموت من دون نجدة هو جريمة ضد الإنسانية.
في جلسة خاصة مع سفير دولة مؤثرة في لبنان ـــ وقد تكون سفيرة ـــ سألت: "لماذا تتأخرون في مساعدة لبنان وأنتم قادرون على ذلك؟". الجواب: "إذا كنتم تريدون تسوية وترقيعا فنحن غير معنيين. أما إذا كنتم تطمحون إلى حل حقيقي وجذري يخلصكم من هذه الطبقة السياسية وآثارها، فالأفضل أن يتدهور الوضع أكثر ليولد لبنان أجمل". كان ينقص هذا الديبلوماسي (ة) أن يرتدي جبة كاهن ويقول لي: "الحق الحق أقول لكم: إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير"...
لا يجوز للأمم المتحدة أن تشرف على موت لبنان عوض أن ترعى إنقاذه. ولا يجوز للأمم المتحدة أن تتذرع بعدم إقدام الشرعية اللبنانية على طلب التدخل، إذ هي تدرك أن الشرعية اللبنانية، بتحالفاتها وخياراتها وأدائها، هي بحكم الواقعة تحت الاحتلال، ومكلفة بتعطيل أي مسعى عربي ودولي إنقاذي. والأمين العام للأمم المتحدة يدري ذلك، وهو لا ينفك ينتقد في بياناته الرسمية الفصلية أداء الدولة اللبنانية وامتناعها عن تنفيذ صحيح للمقررات الدولية من الــــ 1559 إلى 1701. في هذا السياق، نعيب على الأمم المتحدة إحجامها هي أيضا عن تنفيذ عدد من بنود شرعتها وميثاقها التي تفرض عليها إنقاذ دولة عضو فيها من الانهيار، خصوصا أن هذا الانهيار ناتج أساسا عن تدخل خارجي في شؤون لبنان.
أخطر ما في هذا التدخل أنه احتلال وليس باحتلال. أجنبي وليس بأجنبي. يستغل النظام وهو ضد النظام. يستخدم الديمقراطية وهو غير ديمقراطي. يهيمن على الشرعية وهو غير شرعي. يسيطر على الحدود اللبنانية ولا يحترم الحدود الدولية. يحتجب وراء واجهات لبنانية وهو حجاب لأجنبي. يستولي على البلد ولا يجاهر أحد بوجوده. جزؤه مقنع وجزؤه الآخر سافر الوجه. هذا الواقع الإشكالي، الذي يتغافل عنه المجتمع الدولي، يمكن أن يؤدي في حال عدم معالجته دوليا وسريعا إلى أحد الأخطار التالية: 1) استمرار الانهيار حتى السقوط من دون استكشاف شكل لبنان الجديد. 2) تدخل عسكري إسرائيلي لا يميز بين الدولة وحزب الله والشعب. 3) اندلاع حرب أهلية يستتبعها دور عربي ودولي معين. مستهجن ألا ينعقد مجلس الأمن الدولي إلا على سجادة من دم!
حصول أحد هذه الاحتمالات الثلاثة مستبعد حاليا للأسباب التالية: 1) بدء وصول المساعدات المادية الأجنبية، برعاية فرنسية، للحد من سقوط لبنان نهائيا. 2) وجود قرار إسرائيلي بتحاشي حرب جديدة في لبنان. 3) عدم رغبة أي طرف لبناني أساسي بالتورط في اقتتال داخلي غير مضمون النتائج لـمن يظن أنه قوي ولا لـمن يعتقد أنه ضعيف. لكن التجارب اللبنانية تدفعنا إلى التحلي باليقظة الدائمة، وإلى عدم الوثوق الكامل بالتحاليل والمعطيات والمعلومات الجزئية. ففي العقود الأخيرة، بل في السنتين الأخيرتين، صار ممكنا ما كان مستحيلا، وأصبح مستحيلا ما كان ممكنا.
حري بأي دولة تعتزم مساعدة لبنان مصيريا لا ظرفيا فقط، أن تدعو مجلس الأمن إلى الانعقاد وتخليص لبنان بقوة القانون الدولي. فإنقاذ لبنان، بالحوار أو بالإكراه، هو إنقاذ رمز الحضارة والديمقراطية والتعددية والحريات في هذا الشرق. نحن اللبنانيين، كعادتنا، مصممون على مواجهة التحديات وتخطيها بأي وسيلة، فغاية وجود لبنان تبرر جميع الوسائل. لكننا ننتظر دورا فعالا من الدول الصديقة، خصوصا أننا لا ندفع ثمن خياراتنا الانتخابية السيئة فقط، إنما ثمن خيارات عدد من الدول الصديقة وأخطائها في الشرق الأوسط.