سجعان قزي يكتب:

لئلا يظل التغيير هواية لفظية لبنانية

لتعطيل التغيير الحقيقي وعلى مرأى من الشعب، تمرر القوى السياسية اللبنانية الوقت الجاري بتسويات صغيرة، أقل ما يقال فيها إنها خلاف المألوف والدستور. سلم بها الحاكمون والمعارضون، بتبريرات مختلفة، ريثما تنقشع الاستحقاقات الداخلية والتسويات الإقليمية. منهم من ينتظر الانتخابات النيابية، ومنهم من يقفز مباشرة إلى الانتخابات الرئاسية، ومنهم من يتوقع إرجاء الاستحقاقين، ومنهم من يترقب حدثا جللا تلهج به المنتديات وتتعطش إليه بعدما سدت طرق الإنقاذ الداخلي.

والطريف أن كل طرف لبناني يتوقع أن تأتي التطورات لمصلحته، فيرجئ الاعتراف بالآخر ويؤجل الحوار معه كأن اللاعبين سيتغيرون غدا. لكن اللافت اليوم، أن التسويات الصغيرة لم تعد، بدورها، صالحة. رغم ذلك تتصرف الدولة المتهاوية كأنها قائمة ومكتملة الصلاحيات وقابضة على قرارها، والعهد في أول طلعته. هم أركان هذه الدولة أن يحصروا التغيير النيابي والسياسي في ما بينهم، ويراهنوا على سأم قوى التغيير (أين هي؟).

فات أركان الطاقم الحاكم أن مسار تغيير الواقع اللبناني دخل مرحلة اللاعودة من دون أن يستطيع أحد في لبنان التحكم بتوقيت التغيير ونوعيته ومداه السياسي والدستوري. الخشية أن يأتي تغيير متعدد الآباء مجهول الأمهات مكتوم الحاضنات. جميع الأطراف اللبنانيين عاجزون، والعاجزة الكبرى هي الدولة: من هو قوي داخليا ضعيف خارجيا والعكس، ومن يملك القوة يصعب عليه استعمالها، ومن لا يملكها ببحبوحة مستعد للمواجهة والصمود. بحكم هذا الواقع، تعثرت محاولة التمييز بين مصير التغيير في لبنان ومصيره في الـمنطقة. هذه عقوبة الشعوب التي تنقسم على نفسها، وتوالي مكوناتها دولا خارجية، وتفشل جميع المبادرات.

في مراحل سابقة كان الدور الأجنبي في لبنان محصور الحدود مبدئيا بالقرارات الأممية، أما اليوم فأصبح رهن توافقات بين دول مجلس الأمن الدولي. وفي فترات سابقة كان تغيير الأداء السياسي والوطني يغني ربما عن تغيير دستوري. أما اليوم، فصار التغيير الدستوري حتميا بينما تغيير الأداء مسألة فيها نظر. هكذا، نخسر الدستور ولا نربح الأداء الحسن. والأخطر من ذلك، أن تبقى الذهنية الأخلاقية ذاتها ولو تبدل الطاقم السياسي، وحتى لو أعيد النظر في النظام. فاللبنانيون الذين يطالبون بالتغيير يصطدمون بغياب البديل، إذ إن القوى السياسية، على اختلافها، تنتمي إلى الطبقة السياسية ذاتها ولو كان بينها من هم من طينة أخلاقية ووطنية مميزة. منذ النظام اللبناني/السوري فالنظام اللبناني/الإيراني (حزب الله)، لا توجد في لبنان معارضة وموالاة بسبب القوانين الانتخابية المغلقة التي تعيد تدوير هذه الطبقة، والحكومات الوفاقية التي تعطل اللعبة البرلمانية، وبالتالي الديمقراطية. أما جماعات الانتفاضة فأكثريتها استطابت اللعبة التقليدية وخبا وهجها.

لم نتمكن من التغيير النوعي عبر المجتمع (ثورة)، ولا عبر القوة (حرب)، ولا عبر الدستور (الطائف)، ولا عبر الديمقراطية (الانتخابات) ولا عبر الثقافة (النخب). كل ما أسفرت عنه هذه الآليات جاء سطحيا، وغالبا ما ثبت الأمر الواقع. تغير الحكام ولم تتغير الحوكمة. من هنا أن عدم التغيير في لبنان ليس مرادفا للاستقرار، والتغيير ليس مرادفا للتقدم. إنها إشكالية تستبقينا في أزمة دائمة، وحلها بات بالتغيير البنيوي الذي لا يجرؤ أي طرف أساسي بعد على الجهر به رغم أن البديل عن التغيير البنيوي هو تلاشي الوحدة تدريجا. أنظر تتأكد.

لم يكن التغيير الاستراتيجي مشروعا ناجحا وطويل الأمد في تاريخ لبنان الحديث. التغيير هواية لفظية. نقرر التغيير ولا ننجزه. نكتبه وننفذ نقيضه. يقتصر مفهومه عندنا على تغيير موازين القوى وانتقال صلاحيات ولا تصل عائداته إلى الشعب. لا تتغير ذهنية المواطن ولا ثقافته السياسية ولا نمط حياة المجتمع. لم يعرف اللبنانيون تغييرا عميقا كالذي حدث في المجتمعات الأخرى بعد الثورات والحروب والأزمات الاقتصادية الكبرى. وحده حزب الله أحرز نجاحا في إحداث تغيير عميق في بيئته، لكنه تغيير يتنافى مع تراث لبنان وثوابته.

لم يستفد المجتمع اللبناني من التغييرات الدستورية، خصوصا أنها لم تقترن بتعزيز الوحدة الوطنية والسيادة والاستقلال ونمط الحياة. فاللبنانيون الذين جمعوا في مدينة الطائف سنة 1989، عادوا من هناك بدستور جديد بمعية الجيش السوري الذي، لاحقا، عدل الـمعدل. فقدنا مفعول التغيير الإيجابي وبريق "لبنان وطن نهائي"، ونشأت ثلاثة أجيال تحت الاحتلال في مجتمع آنس الانحطاط. ما قيمة التغيير الدستوري الذي لا يصب في التحرير والسيادة وكرامة الإنسان ونهضة المجتمع؟

سلبيات المكونات الطائفية والمذهبية تعطل المتغيرات الإيجابية. تطبعت هذه المكونات على عادة النزاع المستدام، واعترضت على كل تغيير ينزع موروثاتها المنتقلة معها من القرون السابقة جيلا بعد جيل. تحجرت هناك. هذا رصيدها ومادة نضالـها وعلة سيطرتها على جماعاتها. الشعب يخضع لــ"نظام المصادرات". هذا رق يعود إلى زمن النخاسة. والتقدم الذي حصل في بعض البيئات اللبنانية نتج عن التفاعل مع الغرب لا عن التغيير الداخلي.

بيئات لبنانية، متعددة الطوائف، ارتفعت إلى مستوى الحداثة والدولة والنظام الديمقراطي وصيغة التعايش، وبيئات أخرى نــمت عصبيتها الطائفية والإقطاعية والعشائرية. والذين نجحوا ولـمعوا وأبدعوا ظلوا أفرادا عرضة للاقتناص والتدجين، ولم يرتقوا إلى مستوى الجماعة المنظمة القائدة التغيير في المجتمع والدولة، لا بل التحقوا بالقوى التقليدية واستجدوا مناصب. أدى هذا الواقع المتراكم إلى: انقسام مجتمعي فاقم الانقسام الوطني، انهيار التسويات، تعطل نموذج التعددية، وبقاء التغيير في حلقة مقفلة ومفرغة.

مهما كان مسار التغيير صعبا، حدوثه أفيد من الواقع الحالي. وما دام للتغيير ثمن ولعدم التغيير ثمن، فالأفضل أن ندفع ثمن التغيير. لا الشعب قادرا على تحمل هذه الدولة المركزية المخلعة، ولا الدولة قادرة على تحمل حاكميها، ولا الجغرافيا قادرة على تحمل هذه الديمغرافيا التي تضرب الهوية التاريخية. نحن اليوم أمام تحديات يفترض فينا أن نرفعها: إحداث التغيير البنيوي لئلا تتلاشى وحدة لبنان فننتمي عندئذ إلى وطن مغيب.