محمد خلفان يكتب:

سقوط الحاضنة الشعبية للإسلام السياسي

أعظم الكوارث السياسية التي حلّت بعالمنا العربي لم يتسبب فيها أو يقم بها متربصون به من خارج الحدود، بل حدثت جراء مؤامرات من الداخل، ربما لأن الحكومات العربية أخذت الحذر من العدو الخارجي فقط، رغم أن الشاعر العربي الذي طالبنا بالحذر من العدو مرةً واحدة، طالبنا بواجب الحذر من الصديق – غير الصدوق – ألف مرةً. ولدى الشاعر مبرراته وهي مبررات واقعية خاصة عندما يتعلق الأمر بإلحاق ضرر بالصديق.

المصائب العظيمة التي لحقت بالدول العربية منذ ثلاثينات القرن الماضي إلى وقتنا الحاضر ارتكبها بشر ينتمون إلى الدول العربية نفسها، بينما يخضعون فكرياً وعقائدياً لأوامر من مرجعياتهم التي تجلس خارج حدود العالم العربي وتقودهم إلى خدمة مشروعاتها السياسية. كان هؤلاء ولا زالوا ينفذون الأوامر التي تأتيهم من تلك المرجعيات للقيام بعمليات اغتيال، أو إدخال الوطن في صراعات لا علاقة له بها. يتم كل ذلك دون شعور بأي ندم أو ذنب، فالمهم هو إرضاء المرشد الإخواني الموجود في إسطنبول، أو الولي الفقيه القابع في طهران.

بعد ذلك يطلقون على من يرتكب تلك الأفعال الدنيئة اسم مقاوم أو مناضل، ليس لأنه قام بتحرير الوطن أو الحفاظ على سيادته، بل لأنه خدم عقيدتهم وجماعتهم الضالة المخربة. وهم يحيكون مؤامراتهم ويتخذون قراراتهم التي تتجاوز السيادة الوطنية في غرف مغلقة مظلمة، بعيداً عن قيادات الوطن ومصالحه، لذلك لا يهم إن أدى ذلك إلى كوارث أو مصائب، فالشيء المقدس لديهم هو تنفيذ أوامر المرشد.

أما من يدافع عن الدولة والوطن فهو في نظرهم عميل، وصهيوني وخائن، وفي أغلب الأحيان يكون هدفاً للاغتيال والتصفية. هذا واقع تيارات الإسلام السياسي، بنسختيه السنية والشيعية، التي ابتليت بها البلاد العربية.

تقديس الأجندات العابرة للحدود هو ما حجب عن زعيم حزب الله أن يدرك أنه أحدث صدمة مجتمعية كبيرة، ليس فقط في أوساط الشعب اللبناني، بل لدى المواطنين العرب عندما قال “إن لبنان جزء من إيران”

تقديس الأجندات العابرة للحدود هو ما حجب عن زعيم حزب الله اللبناني حسن نصرالله أن يدرك أنه أحدث صدمة مجتمعية كبيرة، ليس فقط في أوساط الشعب اللبناني، بل لدى كل المواطنين العرب عندما قال “إن لبنان جزء من إيران” وكأنه يذكرنا بتلك المقولة التي أطلقها مهدي عاكف مرشد الإخوان قائلا “طز في مصر.. الجماعة فوق الجميع”.

نصرالله، بفعلته هذه، كان أكثرهم حماقة عندما أعلن عما تفكر فيه تيارات الإسلام السياسي. هو وأمثاله ممن يوالون إيران أو يقدمون الولاء والطاعة للمرشد الإخواني والسلطان ما زالوا متوهمين أنهم أيقونات يقودون الشعب العربي الذي استفاق من غفوته وأدرك بلاويهم ومصائبهم وما يقترفونه ضد الوطن، وباتوا لا يرون فيهم إلا مجرد أذناب وعبيد يخضعون لمن يستخدمهم.

التوافق، وإن لم يحدث بتخطيط مسبق بين حزب النهضة التونسي وبين حزب الله اللبناني، من حيث الزمن في التعبير عن أن الانشغال بالوضع الداخلي للمواطن التونسي والمواطن اللبناني من أزمات، لا يلزم هذه الأحزاب وأصحاب هذا التيار حتى لو أدى إلى انقسام المجتمع، ذلك لأن مشروعاتهم العابرة للحدود أبعد وأكبر بكثير مما يعاني منه المواطنون في البلدين ومن مطالبهم.

لم يتوقع راشد الغنوشي ونصرالله، ممثلا تيار الإسلام السياسي اليوم في العالم العربي، ردة الفعل الشعبية هذه، رغم أن هناك دروسا وعبرا نبهت إلى أن الشعارات والأيديولوجيات لم تعد تخدع الشعوب، وما على المعتادين على “الفهلوة السياسية” إلا أن يقرأوا ما يحدث لأخذ العبر، حتى لا يقعوا ثانية في التجربة الخطأ، إلا أن ذكاءهم السياسي لم يسعفهم.

لقد تمكنوا في فترة من الفترات من إحداث ثقوب في الذاكرة الجمعية للشعوب العربية بفعل الشعارات الدينية والفكرية التي وصلت بهم حدا اعتبروا فيه الدفاع عن الوطن أمراً تافهاً مقابل المشروع العقائدي الذي يتعدى الوطن. لقد نجحوا في أن يوهموا ويحرضوا الإنسان العربي على قتال عدو غير حقيقي لأنه معروف وواضح، بينما العدو الحقيقي الذي يستغله خدمة لأجندات أخرى، قابع في الداخل، وهو أكثر فظاعة وأشد تدميرا.

أصحاب هذه التيارات نجحوا أيضا في أن يلغوا في المجتمع بأكمله الإحساس بالذنب عن تدمير الحياة بذريعة أن ما يفعلونه هو نضال ومقاومة. هذا ما يحدث اليوم في جنوب لبنان وفق مقتضيات المفاوضات الإيرانية مع الغرب، أو ما يحدث في العراق الذي تريده إيران دولة مستباحة، وما يحدث في غزة التي تتفنن في تخريب أي محاولة لتوحيد الصف الفلسطيني والعربي في مواجهة الاستيطان الإسرائيلي.

من تابع خلال الأيام القليلة الماضية الغنوشي وهو يحرض المجتمع الدولي ضد بلاده حماية للديمقراطية، تلك الشماعة التي استخدمت لخداع التونسيين، وتابع نصرالله وهو ينادي بالمقاومة، يعتقد أن همهما هو الحفاظ على الدول العربية، إلا من يدرك سيرتهما ومن يدور في فلكهما يعلم أنهما سبب كل المتاعب التي تعيشها الدول العربية. الفكرتان أو الأيديولوجيتان، بحكم الوظيفة السياسية، تعملان على تدمير الوطن وتمزيق المجتمعات الإنسانية، دون أن يرف للمتسببين بها جفن أو تسقط لهم دمعة. والمضحك المبكي في كل هذا أنهم يتفاخرون بما يفعلون.

اليوم باتت الشعوب العربية ترى أن هذين التيارين أكثر سوءا من إسرائيل فهي عدو صريح وواضح، نأخذ حذرنا منه ونحتاط. بينما إيران وتركيا اللتان تستغلان هذين التيارين أكثر خطراً من إسرائيل، فهما الصديق غير الصدوق للعرب، شرهما عظيم ومصائبهما أعظم. التياران انكشفا خلال عقد من الزمن، لذلك قررت الشعوب العربية التخلص منهما ومن يقف وراءهما، وقررت أن تدعم حكوماتها الوطنية لاستعادة الدولة، كما يحدث في تونس اليوم، حيث وقف الشعب التونسي مؤيدا لقرارات قيس سعيّد. أو كما فعل اللبنانيون عندما أوقفوا شاحنة تابعة لحزب الله تحمل صواريخ معدة للإطلاق ضد إسرائيل تلبية لحسابات سياسية لا علاقة للبنان بها.

إن الأذى الذي لحق بالدول العربية بفعل تيارات الإسلام السياسي كبير جداً، فهو من حيث طول المدة يتجاوز ثمانية عقود، ومن حيث النتائج الكارثية تسبب وارتكب من الكوارث ما لم يتسبب به ويرتكبه محتل غربي يوما.