ماجد السامرائي يكتب:
الحرب العراقية - الإيرانية.. تداعيات النصر والهزيمة
قد لا تنطبق مقولة ونستون تشرشل “التاريخ يكتبه المنتصرون” على الحالة العراقية – الإيرانية. فالحاضر يشير إلى محاولات النظام الإيراني المحتل للعراق كتابة تاريخ مزّيف، يشوّه من خلاله جميع الحقائق والمعطيات ويزيح حقيقة هزيمته العسكرية في حرب 1980 – 1988 ويمحو وثائق العراق معتقداً أنه بقتله النخب العراقية العسكرية والمدنية واستحضار خرافات من التاريخ قد يُسّطر تاريخاً مزيّفاً يمرره على الجيل الحالي، لكنه سيفشل حتماً لأن المحتلين لا يكتبون تاريخ الشعوب.
حرب العراق وإيران كارثة حقيقية على الشعبين الجارين، حصلت في لحظة انسداد العقل والذهاب إلى المجهول، كان بإمكان المسؤول العراقي تفاديها. فالقائد الناجح هو الذي يتمكن من تحقيق فن الحرب بالسلام حسب الفيلسوف الصيني سون تزو قبل 2500 عام.
لم تصل المبررات السياسية والفنية درجة اتخاذ قرار الحرب التي كلفت الشعبين العراقي والإيراني أكثر من مليون إنسان ومئات الألوف من المعاقين وقرابة 400 مليار دولار. كانت هناك فرصة تاريخية لحل مشكلة الاعتداءات الإيرانية العسكرية على الحدود العراقية عن طريق الحوار السلمي، لكن الأسباب الفنية كانت مساعدة لخوض الحرب، الحقيقة أنّ كلا من الخميني وصدام حسين استعجلا الكارثة. حسابات الخميني قيام نظام شيعي في العراق وصدام اعتقد كسر الخطر بالحرب.
وجد صدام نفسه بعد انقضاء الشهر الأول من الحرب متورطا باستمرارها، بعد وقوعه تحت تأثير أوهام معلومات شعبة إيران في الاستخبارات العسكرية والمخابرات وبعض مستشاريه وأفراد من المعارضين الإيرانيين المقيمين في العراق، بينهم المعمم علي طهراني زوج شقيقة علي خامنئي الذي قدم برنامجاً موجهاً إلى إيران من تلفزيون بغداد، أوهموا صدام أن نظام الخميني ضعيف ليس لديه جيش وبمجرد انفتاح القوات المسلحة العراقية ودخولها الأراضي الإيرانية سيسقط.
بعد بدء عمليات الرّد العسكرية في الثاني والعشرين من سبتمبر 1980 وجد العراقيون أنه لم يعد هناك أي مكان للاجتهاد في الدفاع عن الأرض والوطن أمام النظام الإيراني الذي أعلن عزمه على احتلال العراق وإسقاط نظامه بالاحتلال وإقامة نظام ولي الفقيه الذي تأخرت إقامته حتى عام 2003.
لم يجد نظام صدام صعوبة في الاهتداء إلى لغة الحرب القومية العروبية مقابل لغة نظام الخميني العقائدية الجاهزة في تصدير ثورته “الإسلامية الشيعية” إلى العراق، هذا التوظيف أذِنَ بتشكيل معسكرين متحاربين بالسلاح، الأول قومي عروبي اعتقد النظام العراقي أنه يقوده دفاعاً وتحوطاً من الأيام المقبلة، وليس من أجل إسقاط نظام الخميني، ذلك يتطلب تضامن جميع الحكومات العربية خاصة دول الخليج ودعمها. يقابله نظام طهران الذي شغّل ماكينته الطائفية بأدوات ميليشياوية إيرانية وعراقية قادها الحرس الثوري على طول الحدود لمحاربة الجيش العراقي تحت شعار “طريق القدس يمر عبر كربلاء” وهو شعار مخادع كان هدفه احتلال بغداد.
حرب العراق وإيران كارثة حقيقية على الشعبين الجارين، حصلت في لحظة انسداد العقل والذهاب إلى المجهول، كان بإمكان المسؤول العراقي تفاديها
لم تفصح حرب الثماني سنوات التي استخدمت فيها جميع أدوات الحرب التدميرية العسكرية والإعلامية ولا نتائجها العسكرية عن الخاسر والرابح فعلياً في ذلك التوظيف الذي ظل حياً ومتواصلاً لحد اليوم. لا شك أن جيش العراق انتصر في تلك الحرب، فيما اعتقد النظام الإيراني بعد خمسة عشر عاماً أنه ربح تلك الحرب المجمدّة عام 1988 باحتلال العراق فعلياً بسند أميركي عام 2003، فيما انقلبت جميع توظيفات النظام العراقي العروبية عليه، فخسر نتائج حربه العسكرية وشعبه وحلفاءه العرب حينما احتل الكويت بعد 24 شهراً من إيقاف القتال مع إيران ولم يكن مضطراً لذلك.
كشفت تلك الحرب الدامية التي حركت تداعياتها عجلة الانهيار في العراق الكثير من الحقائق الفنية التي كانت مخفية على الرأي العام العراقي والعربي ويصعب عرضها في هذه السطور حول تحالفات قوى ودول بعضها داخل المنطقة وخارجها عن ازدواجية التعاطي مع كل من العراق وإيران، والمخاوف من أن يصبح الانتصار العسكري العراقي مقدمة لجغرافية سياسية جديدة يخسر فيها الكبار مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة.
كشفت قناة البي.بي.سي البريطانية في الثالث من فبراير 2019 بعض الوثائق البريطانية الخاصة باختلاف وجهتي النظر البريطانية والأميركية حول احتمالات انتصار العراق العسكري ضد إيران. بيّنت أن لندن تتبع سياسة متوازنة وتتطلع إلى مستقبل مهم في العلاقة مع طهران. في تقرير كُتب في يوليو 1986 قالت إدارة الشرق الأوسط بالخارجية البريطانية “بينما تتمتع إيران بأهمية وإمكانات أعظم على المدى البعيد، فإن السياسة الأفضل تتمثل في نهج هادئ لا يجذب الأضواء ومحايد تجاه إيران والعراق. فهذا يسمح لنا بالحصول على أقصى ميزة تجارية في المنطقة كلها”.
قدم بعض القادة العسكريين العراقيين شهاداتهم التاريخية الوطنية الصادقة عن أدوارهم في معارك الدفاع عن الوطن من خلال مذكراتهم حول الحرب بعقول وضمائر عراقية مهنية خالية من الدوافع والأغراض والمنافع الذاتية التي وقع تحت تأثيرها بعض من جعلوا شعار معارضتهم لنظام صدام وسيلة تجارية رخيصة انتهت إلى الارتماء في أحضان من كانوا يدعون أنهم قاتلوه (نظام طهران) حين كانوا قادة ومسؤولين في جيش العراق.
مثال على الدور الأميركي المخادع تسريبه المعلومات العسكرية للأجهزة الاستخبارية العراقية حول مواقع وهمية تبدو فيها مدينة الفاو آمنة مما سهّل احتلالها من قبل الحرس الثوري الإيراني عام 1986 ثم حررها العراقيون عام 1988 التي مهدت لإيقاف الحرب.
كشف الفريق نزار الخزرجي، الذي وقتها كان قائدا لأركان الجيش العراقي، الحقيقة قائلا “هكذا ضاعت الفاو وعلى الرغم من أن المخادعة هي مبدأ من مبادئ الحرب فإن المخادعة التي تعرضت لها قواتنا في الفاو كانت من العيار الثقيل ونُفذت على مستوى دولي، ساهمت معلومات وخرائط الاستخبارات الأميركية المسربة في تحقيقها”.
وثيقة مهمة أخرى ما أعلنه رئيس جمهورية إيران الأسبق أبوالحسن بني صدر بأن “دول الخليج قدمت عام 1981 عرضاً للنظام الإيراني بدفع تعويضات قيمتها 25 مليار دولار لضمان موافقته على وقف الحرب، لكنه رفض ذلك العرض وطالب بخمسين مليار دولار”. وبني صدر ذاته كشف بأن الخميني أصدر تعليماته لمجلس الدفاع الأعلى بشراء الأسلحة من إسرائيل.
على المستوى التعبوي والإعلامي الذي تَغلّبَ من خلاله العراق على الدعوات الطائفية داخله، أتذكر حين كنت مسؤولاً عن الإذاعة والتلفزيون خلال فترة الحرب مقدار الصدمة التي حصلت في وصول القناة التلفزيونية الإيرانية إلى المشاهد العراقي في بغداد خاصة والتأثير النفسي عليه من خلال نقل مشاهد أفواج الأسرى العراقيين المُذلّة بعد سقوط مدينة “المحمرة” 1982 بأيدي القوات الإيرانية، تطَلَبَ منّا الإسراع في تنفيذ فكرة التشويش التلفزيوني من خلال مرسلات التشويش على تلك القناة وكانت تجربة ناجحة حصلت لأول مرة في تاريخ الحروب بعد التشويش الإذاعي في الحرب العالمية الثانية.
عام 1986 وصلني خبر عرض فيلم “الحلو والمر” في أحد مهرجانات الأفلام العالمية، الفيلم أنتجه وأخرجه مخرج إيطالي استطاع أحد المصورين التسلل إلى الحدود العراقية – الإيرانية وتصوير عملية إعدام بشعة لأسير عراقي بواسطة شد رجليه كل واحدة إلى مؤخرة سيارة عسكرية تحركت باتجاه معاكس لسيارة أخرى. كانت اللقطة مفزعة تركت آثارها في الرأي العام العالمي، اشترينا تلك اللقطة من منتج الفيلم لتوزيعها على العالم.
لم يتمكن نظام الخميني من تحقيق هدف إسقاط نظام الحكم وغزو العراق خلال سنوات الحرب، فرفض قرار مجلس الأمن الدولي رقم 479 في الثامن والعشرين من سبتمبر 1980 بإيقاف القتال، كان متوقعاً قدرة وكلائه وأعوانه تحقيق هذا الهدف عبر الثورة الشعبية مثلما حصل في إيران التي أوصلته إلى السلطة. أسباب فشله كثيرة أهمها حالة التعبئة الوطنية الواسعة بين العراقيين شيعة وسنة وغيرهم من المكونات وعدم قبولهم التعاون مع أجنبي يحارب بلدهم، وخيارهم كان الدفاع عن الوطن فيما أصبح العراقيون التابعون لإيران إلى حد اليوم خونة وطنهم بجميع المقاييس.
البديل الإيراني الفاشل كان تنفيذ سلسلة عمليات التخريب بالمفخخات وتفجير السفارة العراقية في بيروت والمؤسسات الإعلامية العراقية كالإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء العراقية في بغداد عامي 1981 و1982 لكنّ نظام طهران لم ينتظر طويلاً، سنتان فقط ما بين أغسطس 1988 حتى أغسطس 1990 قدمّ صدام حسين هديته لولي الفقيه الجديد خامنئي باحتلاله الكويت بتشجيع إيراني، وقصة إيواء الطائرات المقاتلة العراقية التي صادرتها إيران أصبح حتى أطفال العراق يعرفون من خلالها النكث الإيراني بالعهود وضغط قادة شيعة عراقيين لتعويض طهران بمليار دولار.
فشل النظام الإيراني مجدداً في تأجيج الثورة الشيعية عام 1991 ولا علاقة لما روّج فيما بعد لمساعدات فنية أميركية لوجستية خدمت نظام صدام في إنهاء تلك الانتفاضة.
كان المنقذ التاريخي للنظام الإيراني واشنطن، وثائق كثيرة أعلنها مسؤولون سياسيون أمريكان شاركوا في مباحثات سرّية مع مبعوثين إيرانيين أكدت تقديم طهران تسهيلات حماية القوات الأميركية في الأيام الأولى لاجتياحها العراق.
لا يلوم أحد نظام ولي الفقيه علي خامنئي لرعايته وكلائه خاصة من الجيل الأول الذين لولاهم لما تمكن من أخذ ثأره وتحقيق حلمه ببسط نفوذه في العراق بعد احتلاله، يعتقد أنه الآن في أوج انتصاره، فقد انتقم من العراقيين وعوّض خسارته العسكرية لحرب 1980 – 1988 عن طريق الاستهداف الجسدي لمعظم القادة الذين شاركوا في تلك الحرب وضرب ثورة شبابه الجديدة عن طريق الميليشيات.
حرب إيران مع العراق حصلت وتداعياتها أدت إلى تحقيق حلم الخمينية بتحويل العراق إلى تابع لها إلى جانب ثلاث دول عربية لكنها ستكون آخر حروب إيران في هذا القرن، إذا ما استمر بقاء نظام الولي الفقيه وهو أمر مستبعد، فسياسة تجويع شعوب إيران لا بد أن تؤدي إلى إسقاطه في النهاية.