كرم نعمة يكتب:

المعادل الطائفي للتشدد: طالبان والميليشيات الشيعية

لدينا مثالان روائيان يعبران بامتياز عن المعادل الموضوعي الذي اقترحه علينا ت. أس. إليوت في يوم ما عندما نحتاج ذلك المعادل سياسيا ونحن نضع حركة طالبان والقاعدة وداعش مقابل الميليشيات الشيعية في العراق ولبنان واليمن وسوريا.

في أفغانستان ترسم روايتا خالد حسيني “عداء الطائرة الورقية” و”حجر الصبر” لرحيم عتيقي صورة تعبيرية عميقة عن البلاد هناك عندما يُعاقب الناس بتخويل ديني منزل من السماء!

حسيني كأنه كتب سيرة البلاد الضائعة في سيرة أسرته، وكيف تُنفذ شريعة طالبان في ملاعب كرة القدم بتهشيم رؤوس من ينعتون بالكفرة لأسباب تافهة.

بينما كان الصوت الداخلي في رواية عتيقي معبّرا بحسية قاسية عن اضطهاد المرأة وإذلالها وتحويلها إلى مجرد أداة لإشباع رغبات الرجل، لأن الشرع الإسلامي من حدد ذلك!

طالبان والقاعدة وداعش والميليشيات الشيعية تلتقي في الاستعانة بنفس مصادر التشريع الإسلامي، أما الاختلاف بينهم فلا يخضع سوى للتفسير وفق الذرائع التي تناسب مصالحهم السياسية والطائفية

مقابل هذه الصورة الأفغانية لا نحتاج المزيد من الروايات العراقية أو الحوثية لنعرف حقيقة ما يجري على الأرض في سوق الغبار الديني والطائفي، ومن أجل استعادة “المعادل السياسي” لطالبان ممثلا بالميليشيات الولائية التي تدار بأذرع الحرس الإيراني وتضفي القداسة على خطاب المرشد الإيراني علي خامنئي.

غير أن القلق الدولي المتصاعد من عودة حكم طالبان وتحول أفغانستان إلى دولة فاشلة، لا يقابله مقدار متساو من القلق عندما يتعلق الأمر بالعراق أو اليمن مثلا، مع أن اللادولة هي من تحكم هناك.

هناك كلام مفرط بعدم الرغبة بالفهم يستبعد التطابق في التفكير الديني بين طالبان والميليشيات الشيعية، تحت ذريعة الخلاف الطائفي بينهما. لكن هذا الكلام يتغاضى في ذلك عن النتيجة النهائية عندما يجلس الإسلام السياسي المتطرف سنيّا كان أم شيعيّا على أعلى هرم السلطة. فهناك خطر سياسي من الميليشيات الشيعية لا يقل عن خطر طالبان أو القاعدة أو داعش على العالم.

ومثلما اختار الرئيس الأميركي جو بايدن ألا يوقف حركة طالبان من العودة لحكم أفغانستان، وكان بمقدوره أن يفعل ذلك، اختار العالم أن يغض النظر بمستويات متفاوتة عن خطر الميليشيات الشيعية والحوثيين والتفاوض معهم وقبولهم كقوى سياسية، مع أن حزب الله دولة مسلحة داخل الدولة أوصلت لبنان إلى هوة عميقة من الفشل.

طالبان والقاعدة وداعش والميليشيات الشيعية تلتقي في الاستعانة بنفس مصادر التشريع الإسلامي، أما الاختلاف بينهم فلا يخضع سوى للتفسير وفق الذرائع التي تناسب مصالحهم السياسية والطائفية. لكن العصي على الفهم هو القبول الغربي الجديد بطالبان بعد عشرين عاما من قتالها والتحذير من تنظيم القاعدة في الوقت نفسه! كما ذكر وزير الدفاع البريطاني بن والاس، محذرا من استقطاب أفغانستان للمتطرفين من القاعدة، ومعبرا عن قلقه البالغ من أن تتحول الدول الفاشلة إلى أرض خصبة للمتطرفين. وكأن تشدد فيلق القدس الإيراني والحوثيين أو حزب الله أقل قدرا من تطرف القاعدة. أو أن لبنان والعراق واليمن ليست بدول تقبع أدنى قائمة الدول الفاشلة تحت سطوة الميليشيات!

لا نحتاج مقارنات تاريخية هنا بين التشدد السني والتطرف الشيعي، عندما يتعلق الأمر بواقع على الأرض، لأننا في حقيقة الأمر أمام نموذج ديني سياسي واحد، فعلم طالبان الأبيض يشترك مع أعلام الميليشيات الشيعية بنفس الآيات القرآنية. وعندما يتقاتل النموذجان يرفعان آية قرآنية واحدة ويفسرانها وفق مزاجهما السياسي والطائفي. فالقرآن السني غير الشيعي وإن كان النص واحدا! حدث ذلك بالضبط عند تقاتل الميليشيات مع داعش.

وبينما تقدم الميليشيات نفسها كقوى سياسية تشارك في الحكم في تلك الدول العربية بحثا عن قبول دولي وإقليمي، فإن طالبان تسعى بالفعل للحصول على اعتراف دبلوماسي بعد تغلبها على الحكومة الأفغانية. وهذا يتعلق بإظهار شرعيتها في الداخل كما في الخارج.

هكذا تنمو الأخطاء السياسية الأميركية ونكتشف ما كان يسمى قبل سنين إنقاذ البلدان من الأنظمة الدكتاتورية والمتطرفة ووعودا بالحرية والديمقراطية والازدهار، وقد تحول إلى عودة إلى النقطة الأولى في دائرة فاسدة.

فبعد أن تقابل المسؤولون الأميركيون مع ممثلي طالبان وجها لوجه على طاولة واحدة في قطر، صارت الصين ترى حركة طالبان كقوة سياسية مشروعة، بينما تتحالف معها باكستان وتتعامل معها الهند وتعدها روسيا شرا لا بد من القبول به.

من المفيد أن نستعيد هنا، ونحن نتحدث عن الموقف الدولي المرن من هذه الحركة المتشددة، تعريف رودجر بيكر نائب رئيس التحليل الاستراتيجي في ستراتفور، لطالبان بكونها جزءا من حركة جهادية عابرة للحدود تسعى للإطاحة بالنظام الغربي عالميا.

هذا الانهيار في المفاهيم السياسية في العالم الأميركي الجديد وفق فلسفة الرئيس جو بايدن، سيوصلنا إلى عدم استبعاد أن نرى خامنئي ضيفا على البيت الأبيض! أنا مضطر إلى التوصل إلى ذلك الاستنتاج السياسي الكوميدي مع رفض بايدن الشعور بالندم على الانسحاب وطالبان تستولي على المدن الأفغانية في لعبة الدومينو الهشة، بينما يتذرع وزير الدفاع البريطاني بن والاس بأن هزيمة القوات الأفغانية أمام طالبان لا تعني أن تلك الحركة قادرة على محو التعليم الذي حصل عليه الملايين من الأفغان خلال عشرين عاما!

هذا التحدي المتمثّل في تحقيق المصالح الأميركية في المجتمعات المعقّدة مثل أفغانستان والعراق، أدى إلى إرباك صنّاع السياسة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء.

إذا كان الأمر متعلقا بسياسة الولايات المتحدة فهي لا تفترض أن الأعداء دائمون كما لا تضمن صداقتها. قاتلت طالبان وعادت لتتفاوض معها، مثلما تتفاوض مع الحوثيين.

وذلك ما وصفه السفير الأميركي السابق في العراق وأفغانستان ريان كروكر بفقدان الصبر الاستراتيجي “كأمة وحكومة، نفتقد الصبر الاستراتيجي، للأسف، أصبح أعداؤنا في المنطقة يعتمدون على عدم ثباتنا في المسار”.

فإذا كان الأفغان يشعرون بالامتنان لأن القوات الأميركية أنقذتهم من حكم طالبان الموغل بالتطرف والتخلف قبل عشرين عاما، فإنهم اليوم يطلقون صرخة فزع واستياء لأن الرئيس بايدن لا يشعر بالندم وطالبان تتقدم بلا قتال لإعادة حكمها المتخلف لأفغانستان.

أما العراقيون، بمن فيهم الذين رحبوا في البداية باحتلال البلاد من قبل القوات الأميركية، فإن الخيبة تكتنفهم بضياع بلدهم وغموض مستقبله عندما استبدلت واشنطن النظام السابق بميليشيات طائفية بعد أن أنهت كل ما يتعلق بمفهوم الدولة في العراق، الأمر الذي مهد لصعود أحزاب شيعية لا تختلف كثيرا عن طالبان في إيمانها بالحل الديني للحكم عبر نقل تقاليد المسجد إلى الدولة.

اليوم ترتفع النداءات من المراكز الغربية والباحثين والدبلوماسيين الذين عملوا في أفغانستان، من النتيجة الكارثية لترك أفغانستان تصارع مصيرها مع طالبان. في المقابل لا يوجد نفس الاهتمام بترك العراق واليمن للميليشيات الولائية، مع أن النتيجة متقاربة عندما تدفع طالبان لتحويل البلاد إلى مسجد كبير هو بمثابة سجن يديره وكلاء المرجع الإيراني في الأرض، فيما تدفع الميليشيات إلى ترسيخ ثقافة القطيع الطائفية وانقياد الجموع إلى الخرافة التاريخية.

فالانهيار السريع لأفغانستان هو جزء من هزيمة طويلة وبطيئة للولايات المتحدة بدأت في العراق عندما سلمته لميليشيات إيران وسمحت لحزب الله بالسيطرة على الدولة وقبلت بالحوثيين كطرف سياسي.

لقد توجت السياسة الأميركية تاريخها في المنطقة بالأخطاء التي صارت تعد مثالا متميزا في تحليل الفشل السياسي. واليوم تزيد من أخطائها عندما تترك طالبان تفرض نموذجها المتشدد، مثلما ترتكب خطأ تاريخيا آخر وهي لا تضع خامنئي كمعادل ونسخة طبق الأصل من أسامة بن لادن وأبوبكر البغدادي من أنها ترى الميليشيات تخرج من تحت عباءته.