ماجد السامرائي يكتب:
مأزق الاحتلالات الأميركية والمخرج اللائق في العراق
أصبح السؤال البسيط العام حول الانسحاب الدراماتيكي الأميركي من كابول محيّرا، فيه الكثير من النقاط التي لا تبرّرها نبرة الإخفاق والفشل في خطاب الرئيس جو بايدن إلى الشعب الأميركي والعالم. لكن الجواب يكمن في المراجعة التاريخية لوقائع الحرب في فيتنام 1961-1975، حيث تكرّرت تفصيلات دراما هروب الأميركان ومعاونيهم في سايغون عام 1975 في كابول بذات الإيقاع، وبدت دراسات الخبراء والمستشارين العسكريين في شؤون الحرب عاجزة عن وضع آليات أمينة لانسحاب الجنود الأميركان، فيما أخفق السياسيون عبر عقود في وضع تفسيرات مقنعة لرفض الشعوب للاحتلال.
أزاح بايدن في خطاب الهزيمة حالة المهابة الأميركية التي أريد فرضها على العالم بعد هزيمة فيتنام بتقديم الوسائل الاستخبارية على الجيوش النظامية، ودعم الانقلابات العسكرية والقضاء على الحركات والأنظمة الثورية في أميركا اللاتينية، وتنصيب حكام دكتاتوريين فاسدين مثال الجنرال أوغوستو بينوشيه بعد الإطاحة بحكم سلفادور أليندي في تشيلي، واعتقال الرئيس نورويغا بعد احتلال عسكري مباشر لبنما، وتقديم الدعم المباشر لمتمردي الكونترا في نيكاراغوا في عهد رونالد ريغان تحت ما سمي بفضيحة “إيران غيت” لدعم نظام الخميني في حربه ضد العراق.
التناقض التاريخي الذي وقعت فيه الإدارات الأميركية أمثلته كثيرة، منذ عهد جون كيندي وإلى حد اليوم، سعيا لتبرير حروبها الخارجية تحت مختلف العناوين. مثلا في القرن العشرين بمنطقة الشرق الأوسط دعموا (الأميركان) الانقلاب ضد حكم محمد مصدق عام 1983، ثم بعد ربع قرن تخلوا عن شاه إيران صاحب النظام الليبرالي الذي سمّي حينها بالشرطي الأميركي في المنطقة لصالح قيام نظام ثيوقراطي يعتبر حاكمه الحالي علي خامنئي نفسه نائب ولي الله في الأرض. لم يكتفوا بذلك بل سلموه العراق عام 2003 معززين بذلك نفوذه في المنطقة.
حين وجدوا احتلال السوفييت لأفغانستان يهدد مصالحهم وسط آسيا تحالفوا مع المنظمات الإسلامية الأفغانية وحشدوا دعم دول في المنطقة وكذلك القوى الإسلامية السنية المحافظة التي روجت للمقاومة الأفغانية حتى انتصرت عام 1996، ثم برزت التناقضات السياسية الحتمية ما بين الولايات المتحدة وتلك المنظمات تكلّلت في احتضانها لتنظيم القاعدة الذي نفذ واقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001 مما دفع واشنطن إلى احتلال أفغانستان لمدة عشرين عاما.
ذات السياسات الأميركية، تحت ظل اليمين المحافظ، صُدمت بعد سنوات من احتلالها للعراق عام 2003 دون مبرّرات معقولة حيث فشلت في تسويق مشروع الشرق الأوسط، لكنها ارتكبت إثما تاريخيا في تسليم العراق لإيران وليس للقوى المدنية والديمقراطية.
لا يمكن للكثير من النخب الفكرية والثقافية داخل المجتمعات الأميركية والعربية ومن بينها العراقية قبول حجج الإدارات الأميركية في وضع تبريرات الفشل بعد حصوله في احتلالات عسكرية ليست في صالح الشعب الأميركي، وضد تطلعات شعوب العالم التي تدعي دعمها من أجل الديمقراطية، التي يعرفون أن سجل تطبيقاتها عبر أكثر من نصف قرن بأنها مشوّهة وكاذبة وأن أدواتها سيئة، تتحول في التطبيق وعبر عملائهم إلى ديمقراطية للقتل والظلم والإفقار مثلما حصل في أفغانستان والعراق.
موجة الاستنكار والرفض لدى النخب الأميركية تتصدر الصحف ومراكز البحوث والقنوات التلفزيونية التي اضطرت إلى التعاطي مع هذا الحدث تعاطفا مع مشاهد مطار كابول مثلما حصلت في مطار سايغون قبل نصف قرن. لفت انتباهي ما كتبه في مذكراته في صحيفة نيويورك تايمز نقيب أميركي قاتلَ في أفغانستان اسمه تيمو نيكودو قال “كيف يمكن للمرء أن يكون قاتلا وأن يكون بانيا لأمة في نفس الوقت” في تعقيب عملي على عبارة الرئيس بايدن “إننا لم نذهب لبناء دولة”.
القصة لم تنته فصولها عند حدود نهاية المشهد الدرامي في كابول حيث سيتلاشى تأثيرها النفسي المباشر بعد أسابيع أو أشهر مقبلة. لكن الحدث المقبل الغامض المتوقع هو في العراق، فما زالت الولايات المتحدة موجودة في هذا البلد رغم البيانات السياسية بأن قواتها لم تعد قتالية في نهاية هذا العام، في تعقيدات أكثرها خطورة احتمالات خذلانهم للأكراد في كردستان العراق.
تصريحات زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني الأخيرة تكشف عن جزء من هذا القلق رغم تطميناته للأكراد عن فروق ما بين الوضعين الأفغاني والعراقي، لكنه عبّر عن مخاوفَ كردية وعراقية من أن تكون كردستان ومناطق سنية عراقية والحكومة العراقية نفسها أهدافا للحشد الشعبي بعد انسحاب القوات الأميركية من العراق نهاية العام الجاري.
التشابه بين الوضعين الأفغاني والعراقي هو اعتماد الأميركيين على قوى وأشخاص فاسدين وجهلة في إدارة حكم العراق بعد احتلال عام 2003 ثبت لهم وللعالم الغربي أنهم غير صالحين لإدارة البلد وأشاعوا النهب والتدمير والفوضى والقتل تحت عنوان الديمقراطية، لكنهم مؤمنين بحكم ولاية الفقيه الإيراني. مقابل ذلك عززت إدارة بايدن الحالية دعمها للحكم ومحاولتها الأخيرة التراجع عن الصدام مع الميليشيات الموالية لطهران، وسط توقعات بتكرار السيناريو الأفغاني في الاستيلاء النهائي على سلطتي بغداد وأربيل تحت شعار هزيمة مزيّف “الاحتلال الأميركي” ضمن أجواء الانتخابات المقبلة المعقدة إذا ما حصلت في أكتوبر المقبل، وسط تساؤلات عن مغزى الدعم الإعلامي لإدارة بايدن في قيام تلك الانتخابات في أكتوبر.
موجة الاستنكار لدى النخب الأميركية تصدرت الصحف ومراكز البحوث والقنوات التلفزيونية التي اضطرت إلى التعاطي مع هذا الحدث تعاطفا مع مشاهد مطار كابول مذكرة بما حصل في مطار سايغون قبل نصف قرن
لا يكترث الرئيس بايدن إذا ما حصل وقابل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بعد إلغاء التهمة الأميركية له بالإرهاب مع احتمالات الاقتراب الإيراني من صناعة القنبلة النووية. فقد سبق للرئيس دونالد ترامب أن قابل رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون. كما أن الأميركيين اجتمعوا أخيرا في مفاوضات الانسحاب في الدوحة مع معتقلين أفغان في غوانتانامو أصرت طالبان على إطلاق سراحهم وحضورهم تلك المفاوضات.
رغم قناعتنا بأن الأيام المقبلة في العراق معقدة وستشهد أحداثا درامية لا يستطيع بعض وجهاء السلطة من برلمانيين وإعلاميين مرتزقة تناولها، في اعتقاد واهم منهم بأن الدعوة إلى عقد قمة بغداد أواخر هذا الشهر الذي يتبدل عنوانه يوميا قد تغطي عليها أو تبعد مخاطرها على هامش تداعيات الانسحاب المُّذل في أفغانستان.
أمام الأميركيين المحتلين للعراق فرصة مهمّة قد تفيدهم في إزالة بعض مظاهر الفشل المتراكم من الاحتلالات عبر نصف قرن، حيث يبدو أن إدارة بايدن ستنجز ما قررته إدارة ترامب في الانسحاب السلس من العراق دون إعادة مشهد كابول المُذل لكنه سيعطي نتيجة أكثر خطورة على سمعة الأميركيين وعلى العراقيين مما حصل في احتلال داعش المدبّر لقرابة نصف مساحة العراق عام 2014.
الفرصة الجيوسياسية الأميركية المهمة ما زالت مفاتيحها بيد إدارة بايدن إن أراد تعطيل التداعيات السلبية، بأن يخرج من ارتباكاته الذاتية وتبريراته غير المقنعة للنخب الأميركية وللسياسيين المهتمين بالشأن العراقي، سواء من الوطنيين العراقيين أو العرب.
القرار الجيوسياسي المهم والتاريخي الذي سيخرج بايدن مما هو فيه ويخلّصه من الأخطر في الحالة العراقية هو بصورة واضحة دعم عملية تغيير سياسي جذري في العراق، احتمال تحوله إلى عسكري في الأيام المقبلة غير محسوب النتائج. فالمقاومون للنظام القائم، خاصة شباب تشرين الذين خسروا أرواح آبائهم وأشقائهم ورفاقهم من قبل القتلة المتحالفين مع تنظيم داعش والميليشيات الموالية لطهران، لا تهمّهم أرواحهم التي سيبذلونها مجددا على طريق استعادة وطنهم.
هناك مبررات سياسية مهمّة قد تنقذ الإدارة الأميركية وتسهل التخلي عن دعم طهران ونفوذها في العراق. أما السؤال الأميركي التقليدي للمسؤولين الأميركيين: أين هي القوى المطلوب التفاوض معها على الأرض؟
الجواب سيجدونه بسيطا، هناك معارضة وطنية واسعة داخل العراق وخارجه يمكن الاهتداء إلى تلك التي لها واقع حقيقي على الأرض. عيون الأميركان لا تخيّب، وإن خابت اليوم فهي التي ستتحمل العقبات على مستقبلها في المنطقة لصالح نفوذ إيران.