آراء وأفكار

ماريا معلوف تكتب:

إخفاقات جهاز الأمن القومي الأميركي

لم أتفاجأ أبدا مثلي مثل كثير من الصحفيين والمراقبين هنا في واشنطن مما حملته الساعات الماضية من دعوة مستشار سابق للبيت الأبيض في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، الرئيس جو بايدن إلى إقالة جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي، في ضوء سيطرة طالبان على أفغانستان.

هذا المستشار، ويدعى جادل بريت بروين، قال إن "سوليفان ضليع بنظريات وحجج السياسة الخارجية، لكنه يفتقر إلى الخبرة الخارجية التي أدت إلى انفصال بين الأفكار والتنفيذ.. نعم، أراد بايدن الخروج من أفغانستان. وكان على سوليفان معرفة كيفية تحقيق هدف الرئيس مع ضمان تجنب المزالق والمشاكل المحتملة".

انطلاقا من كلام هذا المستشار الذي عمل لقرابة العقدين مع جيك سوليفان يكثر الكلام هنا في واشنطن عن أسباب تكرار فشل جهاز الأمن القومي الأميركي في تقييم بعض خطط الانسحاب والحروب والتقديرات غير الموفقة لكثير من نتائج سياسات الأمن القومي الأميركي، وبداية أقول إن إدارة بايدن كانت قد أعلنت في 3 مارس 2021 وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي، والتي تناولت موضوعات ارتبطت بمشهد الأمن العالمي وأولويات الأمن القومي الأمريكي؛ وتتألف الوثيقة التي تُغطي جوانب أمنية عديدة من 24 صفحة تشكل التوجيه الرسمي الأول الذي يصدر عن إدارة بايدن في هذا الشأن.

وناقشت الوثيقة قضايا مختلفة منها الأمن القومي والاستخبارات، وموضوعات أخرى محددة مثل تحديث حلف الناتو، وتحولات الطاقة النظيفة.

ورغم أن العديد من الأهداف الواردة في هذه الوثيقة تؤكد التوقعات التي تبلورت خلال مطلع العام في ما يخص أولويات الإدارة الأميركية الجديدة، إلا أن أهميتها تنبع بالأساس من كونها تشكل أول وثيقة رسمية معلنة وأول محاولة تربط بين الأوجه المختلفة للسياسة الأمريكية وتعرض وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي بالتفصيل لأبرز التحديات ومصادر الخطر التي تواجه الأمن القومي الأمريكي على المستوى العالمي، والتي جاءت نتاجا لعدة عوامل أثرت فيها ومنها تداعيات جائحة كوفيد-19، والانكماش الاقتصادي الحاد، والتغييرات المناخية، والمنافسة مع روسيا والصين.

هذه الوثيقة بشكل عام كانت تحسم قدرة أميركا على مواجهة التحديات العديدة التي تعترضها. كما حددت الوثيقة الخطوط العريضة للسياسة الأميركية في المرحلة المقبلة المرتبطة بالترويج للديمقراطية، والتنمية الاقتصادية، وتجديد التحالفات، وقيادة الولايات المتحدة للمؤسسات العالمية؛ كما أعطت الوثيقة ذاتها لجميع المجالات الأساسية أهمية متساوية لكنها ترتب أولويات المخاطر بناءً على احتمالية حدوثها وشدة تأثيرها المتوقع على المصالح القومية كما ورد بوضوح في تلك الوثيقة.

ومع الانسحاب المفاجئ من أفغانستان علينا أن نعود إلى تلك الوثيقة لندرك نظرة الإدارة الأمريكية من جهة الأمن القومي لهذه القضية فقد بدى ان إدارة بايدن تسعى إلى تغيير مواقع تمركز الجيش الأميركي في الشرق الأوسط من خلال تحديد حجم القوة اللازمة بالشَّكل الصحيح "بحيث يصبح وجودها العسكري في المستوى المطلوب لتدمير الشبكات الإرهابية الدولية، وردع الاعتداء الإيراني، وحماية المصالح الحيوية الأمريكية الأخرى".

كما تعتزم الإدارة الأمريكية، حسب المحور الأخير من الوثيقة، إنهاء حالة "الحروب المستمرة للأبد"، والتي كلّفت آلاف الأرواح وتريليونات الدولارات وقد ورد ذلك بصراحة في عبارات للرئيس بايدن مثل "سنعمل على لإنهاء أطول حرب تخوضها أمريكا في أفغانستان" و"كما سنضمن عدم عودة أفغانستان مرة ثانية لتصبح ملاذاً آمناً للإرهابيين وقاعدة لشن هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة"، ولا يخفى كيف ركزت الاستراتيجية العسكرية الأميركية لسنوات على خوض حروب مباشرة صريحة، وكانت تحتفظ بالحجم اللازم، والقوة، والهيكل، والانتشار، والأسلحة اللازمة لردع نشوب صراع أو للانخراط في معركة .

اليوم ومع هذه الإدارة لابد أن نعود إلى وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي إذ أنها توفر مؤشرات بخصوص الأهداف الاستراتيجية والمركزية لإدارة بايدن على مدى السنوات الأربع القادمة؛ وعلينا الانتظار لنرى كيف سيتم العمل لتحقيق هذه الأهداف، وما إذا كانت توجيهات السياسة المذكورة في الوثيقة يمكن أن تقف صامدة أمام التحديات الكثيرة التي سيواجهها البيت الأبيض.

وإذا ما نظرنا إلى أنه كان من المفترض أن مسألة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ستكون  قضية تاريخية وتحظى باهتمام كبير، سندرك أنه و بالشكل الذي شاهده العالم من انهيار تام وسريع للحكومة والجيش الأفغاني وسيطرة حركة طالبان على أفغانستان، زاد من حدة الجدل بشدة حول الطريقة التي اتخذ بها الرئيس الأمريكي جو بايدن قراراته بخصوص الانسحاب، وسبب إصراره على المضي قدما برغم وجود مؤشرات وتساؤلات سبقت ورافقت تدهور الوضع عشية الانسحاب، وأن الطريقة التي سيطرت بها طالبان على البلاد بسرعة ومشاهد الفوضى في عمليات إجلاء الأميركيين والأفغان المتعاونين معهم في مطار كابل هزت صورة السياسي الخبير في الشؤون الدولية المعروفة عن بايدن، الذي كان نائبا للرئيس السابق باراك أوباما على مدى 8 سنوات كما ضربت في الصميم مفهوم الأمن القومي الأميركي وأكدت تعدد إخفاقات هذا المفهوم .

اليوم يرى كثير من خبراء الأمن القومي الأميركي أن السياسة الأميركية فشلت في تقديم استراتيجية تتمكن من القضاء على تحديات فترة ما بعد الحرب الباردة، فعندما تم تحرير الكويت من غزو العراق لم تنته الحرب آنذاك، كما فشلت القيادة الوطنية من تحديد اهداف يمكن تحقيقها في الصومال، وكانت غير مؤثرة لفترة طويلة في التعامل مع مشكلة البوسنة، وفشلت الجهود الأميركية في مواجهة سباق التسلح النووي بين الهند وباكستان ولم تفلح القيادة السياسية الأميركية في مواجهة التحديات الارهابية قبل ان تقع في 11 سبتمبر، واليوم يتكرر الإخفاق وسوء التصور الذي قدره خبراء الأمن القومي الأميركي.

التعليقات

شروط التعليقات
- جميع التعليقات تخضع للتدقيق.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها

مقالات ذات صلة