محمد خلفان يكتب:
قوة الكاظمي الكامنة في "ضعفه السياسي"
يبدو رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وهو في مراحله الأخيرة من حكومته المؤقتة، وكأنه يضاعف من نجاحاته في ملفات إعادة توازن العراق. فالمتابع للمشهد العراقي منذ تسلمه الحكومة في مايو 2020 يلاحظ أنه ينتقل من ملف إلى آخر محققاً نجاحاً (نسبياً) فيه. فعلى سبيل المثال، استطاع خلال أقل من شهر أن ينظم قمة إقليمية – دولية، دعا إليها العديد من الدول التي يصعب عادة تواجدها معا، أو إقناعها لتجتمع مع بعضها في لحظة واحدة. كما وقع (العراق) اتفاقية مع شركة توتال الفرنسية في مجال تطوير الطاقة بقيمة 27 مليار دولار لمدة 25 عاماً، في خطوة تحمل عديد الرسائل والمعاني السياسية والاقتصادية.
توقيت حصول تلك الأحداث، رغم بعدها الخارجي، لو تم ربطها بما ينتظره العراقيون داخلياً، يحمل الكثير من الدلالات. فكل ما يسعى إليه الكاظمي حالياً هو توفير بيئة كفيلة بضمان إجراء الانتخابات التشريعية المقررة في العاشر من أكتوبر القادم باعتبارها المهمة الرئيسة لحكومته المؤقتة. ويسعى الكاظمي بعد الانتخابات إلى تحقيق هدفين مرتبطين بإنجاح كافة مراحل تلك العملية السياسية خاصة في نقطتين. الأولى: توفير الاستقرار الأمني بما يضمن للناخبين المشاركة في اختيار مرشحيهم. والثانية: المحافظة على نزاهة تلك الانتخابات من عمليات التزوير التي عانت منها الانتخابات الماضية وكانت هناك محاولات لتزوير الحالية.
ويهدف الكاظمي من خلال ما يقوم به من تحركات داخلية وخارجية إلى تحقيق الاستقرار الأمني الداخلي وتحقيق التنمية الشاملة في بلاده في كل المجالات. قد تبدو بعض تحركاته خارجية بحته كما هي “قمة بغداد للتعاون والشراكة” والقمة الثلاثية مع مصر والأردن، بما في ذلك جولاته التي تركزت على الخارج. لكن لو تم تدقيق النظر في تلك النشاطات “بتمعن” سنجد أن كل تحركاته تعكس محاولاته البحث عن الاستقرار الداخلي للعراق بالمفهوم الشامل. باعتبار أن الاستقرار عامل مهم في مواجهة التدخلات الخارجية التي تستعين بالميليشيات المنتشرة في العراق وبالفاسدين.
إن قوة الكاظمي كرجل وطني، والتي ساعدته في أن يحقق تلك النجاحات، تأتي من “ضعفه السياسي”، النقطة التي رددها كثيرون وهي أنه لا يستند إلى كتلة سياسية كبيرة تدعمه في تطبيق سياسته. لو تتبعنا التأييد الذي يحظى بها داخلياً وخارجياً سنجد أنه نتيجة جهود شخصية مستقلة سياسياً فهو لا ينتمي لأحزاب متخمة بكل أنواع الفساد تعمل على تدمير العراق، ويرفض التكتل ضمن قوى متهمة بالفساد والتبعية للخارج. كما أنه لا يعمل من منطلق طائفي أو أيديولوجي، ولا حتى من تحت “عباءة” مرجعية دينية، وعليه فهو مقبول من الجميع إلا من الذين لا يريدون له أن ينجح في مشروعه.
وبنظرة مستقبلية، وفي ظل حالة الشد والجذب السياسي والإعلامي التي يعيشها العراق قبيل الانتخابات، فإنه من غير المستبعد أن يسفر اختيار رئيس الوزراء العراقي القادم عن التجديد للكاظمي الذي بات يستند إلى شرعية مستمدة من الإنجازات الوطنية. بل هذا ما هو مرجح حتى الآن. في المقابل فإن حالة التنافس لتحقيق المصلحة الشخصية للقيادات العراقية المترشحة تطغى على آمال وطموحات الإنسان العراقي الذي أثبت أنه رقم صعب في معادلة المشهد السياسي العراقي منذ إسقاط حكومة عادل عبدالمهدي.
لقد تولدت لدى الكاظمي استراتيجية “الدولة الفاعلة” والتي وظفها بشكل جيد في تفكيك أزمات العراق وخلق توازن لبلاده خارجياً وهو الهدف الذي أكده في برنامجه السياسي عند تسلمه الحكومة، وذلك من خلال عدة إجراءات بدأت بجولات خارجية شرح خلالها وجهة نظر بلاده، في إيران وبعدها إلى الولايات المتحدة الدولتين اللتين حولتا العراق إلى ساحة التنافس والاقتتال في ما بينهما. وقد برهن عمليا أنه قادر على أداء عمله ووقف الأعمال العدائية. ثم انتقل بعد ذلك للانفتاح على أشقائه العرب باعتبارهم العمق الاستراتيجي للعراق والحاضنة الحقيقية له، وبدأ جهوده بالتوجه إلى مصر الدولة التي لا يمكن لأي قائد عربي تجاهلها، والأردن الجار الذي يتأثر كثيراً بالعراق سلباً وإيجاباً. وأخيراً ختمها مع الدول الخليجية التي تمتلك رؤية تنموية ولديها استراتيجية لخدمة شعوبها ولديها شغف كبير لعودة العراق بما يمثله من بعد حضاري وتاريخ إنساني.
استراتيجية الكاظمي، التي انتقدها البعض وما زالوا، وفرت للعراق هامشا من الحركة بعيداً عن التقوقع في الخلاف الأميركي – الإيراني. وأخرجته من مناوشات الجار التركي المتكررة في إقليم كردستان، وساعدت العراقيين في الالتفات والتفرغ لقضاياهم الوطنية. وأرجعت تلك الاستراتيجية حضور العراق الدولي من خلال القدرة على إعادة إحياء الدور الإقليمي العربي الذي “مات” لأكثر من عقدين. كما أوجدت تلك الاستراتيجية تفاهمات إقليمية بين دول المنطقة يتوقع لها أن تساهم في حلحلة بعض القضايا والأزمات التي هددت استقرار المنطقة.
ما أريد قوله هنا بأن الكاظمي وظف التفاعل الخارجي للعراق بلعب دور الوسيط لتقريب وجهات نظر بين المتنافسين على العراق من أجل الإصلاح الداخلي والتركيز على مواجهة الفساد الإداري والأمني وتشجيع الاستثمارات الخارجية في بلاده باعتبارها مطالب المحتجين. وبالتالي، وفق هذه الرؤية، في حالة عودة الكاظمي إلى الحكومة المقبلة (وهذا الأرجح) سيكون باستطاعته إخراج العراق من حالة الثبات السياسي التي جعلته يتحرك ضمن النفوذ الإيراني والتركي إلى آفاق أوسع تليق بمكانته التاريخية وبمكانة شعبه العريق.