سالم الكتبي يكتب:

النظام العالمي وتوابع ما بعد أفغانستان

هناك العديد من الباحثين والمتخصصين يربطون بين انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وسياسة التدخلات الخارجية، وفي مقدمتها التدخل في أفغانستان ثم حدوث تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الروسية بتجنب المواجهات والتدخلات الخارجية حيثما أمكن ذلك، ويربط البعض أيضاً بين الانسحاب الأميركي من أفغانستان مؤخراً من ناحية وانحسار الهيمنة الأميركية على النظام العالمي من ناحية ثانية، ويعتبرون أن الانسحاب أحد دلائل هذا الانحسار وسند من اسانيده القوية، ما يستوجب مناقشة هذه الفرضية المهمة بالنظر إلى ارتباطها الوثيق بالأمن والاستقرار الدوليين.

ومع التسليم بأن الفشل السوفيتي في أفغانستان قد لعب دور كبيراً في انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، فإننا نرى أن هناك نقاط عدة تستحق تسليط الضوء عليها من أجل الوصول إلى فهم أفضل للمسألة، وأهمها اختلاف الظروف والبيئة الدولية التي تم فيها الانسحاب السوفيتي عن تلك التي جرى فيها الانسحاب الأميركي، ورغم الانهيار السريع للغاية للحكومة والجيش الأفغاني الذي دربته القوات الأميركية طيلة وجودها في أفغانستان حتى أن الرئيس بادين قد ذكر في آخر محادثة هاتفية مع الرئيس السابق أشرف غني جرت في 23 يوليو الماضي ـ بحسب تفريغ لتسريب نشرته وكالة رويترز "من الواضح أن لديك أفضل جيش.. لديك 300 ألف جندي مسلحين جيداً، مقابل 70 أو 80 ألفاً، وهم بالطبع قادرون على القتال جيداً". لكن بعد أيام من ذلك، بدأ الجيش الأفغاني في التقهقر في أنحاء البلاد وعواصم الأقاليم بدون قتال يذكر في مواجهة طالبان. على الجانب الآخر صمدت القوات الأفغانية الموالية للسوفيت في مواجهة التنظيمات المسلحة منذ انتهاء الانسحاب السوفيتي من أفغانستان في منتصف فبراير عام 1989 حتى عام 1992، حين انهارت الحكومة الأفغانية الموالية للسوفيت، أي أنها استمرت لنحو ثلاثة أعوام؛ ورغم أن هذه المقارنة تبدو منطقية في فهم أحد جوانب الموضوع فإنها تتعلق بفشل القوات والحكومة الأفغانية ولا تصب كثيراً في خانة الفرضية المتعلقة بتراجع القوة الأميركية رغم دلائلها القوية بشأن فشل خطط تغيير المجتمع الأفغاني وهدر المليارات على جيش أفغاني لم يستطع الثبات في مواجهة تقدم طالبان!

ورغم قناعتي باختلاف الظروف والمعطيات بين الحالتين وأن هناك عوامل وأسباب جوهرية أخرى أسهمت بالدور الأكبر في تفكك الاتحاد السوفيتي، بخلاف الولايات المتحدة التي لا تعاني أي أزمات مصيرية كتلك التي عانى منها السوفيتي في أواخر أيامهم، فإن من المهم الاشارة إلى أن مثل هذه القناعات لا تخفي وجود تحركات على المسرح الدولي لتهيئة الظروف لولادة نظام عالمي جديد باستغلال معطيين مهمين، تصادف تزامنهما أو تلاحقهما في وقتين متقاربين للغاية بشكل لافت، وهما فشل الولايات المتحدة في قيادة الجهود العالمية للتصدي لوباء كورونا، أو على الأقل تقديم الدعم اللازم لحلفائها وأصدقائها، بل فشلت في تحصين شعبها ضد تفشي الوباء، وثانيهما الانسحاب العسكري الفوضوي من أفغانستان.

في مقدمة الاشارات الخاصة بتشكيل نظام ما بعد كورونا انطلاقاً من هذه الظروف تأتي المواقف الروسية، حيث تسعى موسكو إلى الترويج لفكرة بناء نظام عالمي تعددي تقوده الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، حيث قال الرئيس فلاديمي بوتين رداً على سؤال أثناء مشاركته في منتدى الشرق الاقتصادي، حول من يجب أن يكون مسؤولا عن النظام في العالم حال تخلي الولايات المتحدة عن دور "الشرطي العالمي"، أجاب بوتين: إن النظام في العالم يجب أن يكون مسؤولية للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي التابع لها، بما في ذلك الأعضاء الخمسة الدائمين فيه (وهي روسيا والولايات المتحدة والصين وفرنسا وبريطانيا).

روسيا التي تحاول في الأعوام الأخيرة استعادة نفوذها القديم باعتبارها الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي السابق، تتحرك في مناطق عدة لملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن انشغال الولايات المتحدة أو احجامها عن لعب الدور المنوط بها كقوة مهيمنة على النظام العالمي القائم، تريد استباق الأحداث والعمل على هندسة التغيير بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية كقوة دولية، فهي تدرك تماماً أن الصين ربما تجد نفسها في وقت ما في موقع القيادة المنفردة للنظام العالمي، أو على الأقل لعب دور القائد في إطار قيادي تعددي.

والحقيقة أن الأحاديث والتوقعات حول انهيار أو انحسار الدور القيادي الأميركي عالمياً تتردد منذ نحو عقدين، والمفارقة أن بعض الأكاديميين الأميركيين قد بادروا بنشر أدبيات سياسية شهيرة تتضمن تساؤلات حول مستقبل القوة الأميركية، ولذا ليس مفاجئاً مثل هذه التوقعات عقب الأحداث الكبرى مثل الانسحاب من أفغانستان، واعتقد أن التحدي الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة لا يأتي من جانب منافسيها بل من داخلها، حيث برز الاستقطاب السياسي والمجتمعي والعرقي في السنوات الأخيرة كتحد متفاقم يتطلب تعديلات جذرية على المستويات التشريعية والادارية والسياسية بما يسهم في وقف التدهور الحاصل في تقدير النموذج الأميركي عالمياً.