فاروق يوسف يكتب:
هذيانات الغنوشي في مواجهة الحقيقة
لا يزال راشد الغنوشي يتوهم أن في إمكانه إعادة عقارب الساعة التونسية إلى الوراء. لا يصدق الرجل أنه قد هُزم مقابل رئيس سبق وأن وصفه بأنه من غير صلاحيات.
لم تتم إقالته ولم يتنح عن منصبه غير أن دوره في الحياة السياسية صار صفرا أو اقل. تلك معادلة لا يقوى رئيس حركة النهضة الإسلامية على أن يتفهمها بما يليق به كونه لا يزال رئيسا لمجلس نواب معطل وفق الدستور.
يزعم الغنوشي أن مجلس النواب هو في حالة انعقاد دائم، ولكنه حين دعا النواب إلى الذهاب إلى مبنى مجلسهم لم يستجب لدعوته سوى نائب واحد. لا لشيء إلا لأنهم يحذرون الوقوف ضد إرادة الشعب.
وليس غريبا على الغنوشي أن لا يرى الحقيقة ولا يعترف بالواقع. فالأوهام هي بضاعته الوحيدة التي يعرف أنها بضاعة زائفة. غير أنه في النهاية صار يصدق أوهامه التي كان يبيعها إلى الآخرين ساخرا.
لذلك يمكن النظر إليه باعتباره ضحية. ضحية عقيدته المتشددة التي تقوم على الاستخفاف بكل فكر يخالفها وضحية الدول التي انصبت سياساتها على دعم جماعات الإسلام السياسي وحركة النهضة التي يتزعمها الغنوشي واحدة منها.
كان الشيخ وذلك لقبه، مطمئنا إلى أن بضاعته غير قابلة للجدل أو الرد فهي تستند في إطارها العام إلى لعبة سياسية تستمد قوتها من الدين الذي يخشى البسطاء الاقتراب منه وتفحصه عن قرب. كما أنه كان مطمئنا إلى أن الدول التي أغرقت جماعات الإسلام السياسي بالدعم لن تتخلى عنه إذا ما حدث له مكروه من أي نوع وبغض النظر عن الجهة التي تقف وراءه.
ولأنه يحب السلطة لم يكتف بالوقوف وراء رجالها والاشراف عليهم وتصريف الشؤون السياسية عن بعد بل اندفع في اتجاه منصب رئاسة مجلس النواب بلهفة مَن يرغب في أن يكون في صدارة المشهد وأن تُسلط الأضواء عليه. ولو أنه بقي في مكانه مرشدا لجماعته لما انهالت عليه مباشرة مختلف أنواع الاتهامات التي توزعت بين الفساد والارهاب مرورا بتدمير الدولة.
لقد نُصح الغونشي كثيرا باعتزال السياسة ولكنه لم ينتصح. لم تكن مرآته صالحة لإظهار أي نوع من العيوب الشخصية بالرغم من أن الرجل كان شخصية عامة مما يفرض عليه النظر إلى مرايا الآخرين ليرى نفسه من غير رتوش ولا مدائح زائفة.
حتى داخل الحركة التي يتزعمها كانت هناك اعتراضات على شخصيته وعلى طريقة إدارته وعلى السياسات الحزبية التي يفرضها على الحركة وهو ما كان ينبئ بإمكانية إنهيار التنظيم الاخواني إذا ما وُجهت إليه ضربة خارجية محكمة. وهو ما حدث فعلا حين جمد الرئيس التونسي قيس سعيد عمل مجلس النواب وصار على رئيسه أن يلزم بيته. لم تعد الحركة تثق بزعيمها المهزوم. لذلك كثرت استقالات الأعضاء من الحركة ولم ير ممثلو الحركة في مجلس النواب ضرورة في الاستجابة لنداء زعيمهم الذي صاروا ينظرون إليه بيأس كما لو أنه سيختفي في أية لحظة.
يقف الغنوشي اليوم خارج الزمن التونسي.
ليس في إمكانه أن يعترف أنه خسر معركته السياسية في مواجهة الرئيس سعيد. أيمكن أن يهزمه رجل لم يكن حزبيا في حياته ولم يحترف السياسة وهو الذي يعتبر نفسه خبيرا في اللعبة السياسية بكل ما عُرف عنه من دهاء وتمكن واحتراف؟ وفي ذلك لا يمكن الاستهانة بحجم الصدمة التي تعرض لها الغنوشي وهو يرى مملكته تتهاوى داخل حزبه وخارجه.
من الصعب عليه أن يصدق أن العشر سنوات التي شهدت تألقه قد انتهت وأنه سيكون محروما من تنفيذ سياساته التي كان يطمح من خلالها أن يضع تونس على خارطة الاخوان الدولية. بل يمكن أن يحدث الأسوأ إذا ما ذهبت التحقيقات إلى الكشف إلى ما هو في غير صالح النهضة في ارتباطاتها الداخلية والخارجية. لن يكون الغنوشي حينها في منجى من القضاء.
كان يوما ما فوق القانون والآن هو في انتظار أن يقول القانون كلمته.
كل ذلك يدفع بالشيخ إلى أن يغمض عينيه عن الواقع ويتمسك بالأوهام التي كان يسوقها ويروج لها من غير أن يكون مؤمنا بها. إنه سجين اللحظة التي يمكن أن يكون فيها ضعيفا أمام القانون وليس هناك من جمهور يشد إزره. لقد تخلى عنه نوابه فكيف هو الحال مع الجمهور الذي تعب من الأوهام؟
الغنوشي اليوم هو رجل وحيد يهذي بما لا يُستعاد من أيامه.