ومع غياب التقديرات الأميركية الرسمية عن تكاليف تلك الحرب، قدرت دراسة بجامعة براون عن مشروع تكاليف الحرب أن الحكومة الفيدرالية الأميركية أنفقت 2.3 تريليون دولار على العمليات العسكرية في أفغانستان وباكستان، و2.1 تريليون دولار في العراق وسورية، و355 مليار دولار في الصومال ومناطق أخرى في إفريقيا، كما تم إنفاق 1.1 تريليون دولار إضافية على تدابير الأمن الداخلي في الولايات المتحدة منذ العام 2001، ليصل إجمالي النفقات الأميركية المباشرة للحرب على الإرهاب في الداخل والخارج إلى حوالي 5.84 تريليونات دولار.
وتشير تقديرات الجامعة إلى أن التكلفة البشرية لحروب ما بعد 11 سبتمبر، تُقدر بما بين 897,000 إلى 929,000 شخص لقوا مصرعهم خلال تلك الحروب.
كانت منطقة الشرق الأوسط الأكثر تأثرا بتلك الحرب، حيث شهدت تدخلات عسكرية أميركية مباشرة، كما حدث في العراق في مارس العام 2003، وفي ليبيا بتدخل غير مباشر في العام 2011، ناهيك عن التدخلات العسكرية في مناطق الصراعات والأزمات التي تشهدها المنطقة، والضربات الخاطفة ضد قيادات التنظيمات الإرهابية باستخدام الطائرات بدون طيار في مناطق تسيطر الولايات المتحدة على اجوائها.
رغم النجاحات التي حققتها الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين بمشاركة حلفائها بالمنطقة في القضاء على قيادات التنظيمات الإرهابية، ورغم انحسار المناطق التي كانت تسيطر عليها تلك التنظيمات، فإن سياساتها واستراتيجيتها تجاه المنطقة خلال السنوات الماضية أخفقت في تحقيق الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط، حيث أضحت المنطقة تموج بالأزمات والصراعات الأكثر حدة وعددا مما كانت عليه قبل عام 2001، وظهر التدخل العسكري الأميركي بكثافة في المنطقة وشؤون دولها.
تمثلت أولى إخفاقات استراتيجية مكافحة الإرهاب الأميركية في تحويل العديد من دول منطقة الشرق الأوسط من دول مستقرة ولديها سلطة سياسية قادرة على السيطرة على حدودها وفرض الأمن والاستقرار على مواطنيها إلى دول فاشلة غير قادرة على السيطرة على أراضيها، التي تحولت نتيجة التدخلات العسكرية الأميركية إلى ملاذات آمنة للتنظيمات الإرهابية التي تنطلق من حدود تلك الدول لاستهداف جيرانها. ناهيك عما أنتجته من أزمات إنسانية لمواطنيها، وموجات من النزوح والهجرة غير المسبوقة في المنطقة.
واما ثاني تلك الإخفاقات فيرتبط بفشل المقاربات التي انطلقت منها الحرب الأميركية على الإرهاب في المنطقة، والمتمثلة في الربط بين صعود التنظيمات الإرهابية وقضايا الديمقراطية والإصلاح السياسي وحقوق الإنسان في دول المنطقة، وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة في أعقاب أحداث سبتمبر الإرهابية إلى تبني سياسة بناء الدول وإحداث تحولات سياسية فيها باستخدام القوة العسكرية تارة، وبالضغوط الاقتصادية والسياسية تارة أخرى.
وبعد عقدين من تلك المقاربة أخفقت واشنطن في تحقيق ما كانت تطمح إليه، ولكنها في المقابل زادت من أتون الحروب الأهلية، والنزاعات الاثنية والعرقية داخل الدول التي تدخلت فيها عسكريا، وحولتها إلى دول فاشلة.
وكان أقرب مثال على ذلك ما حدث في أفغانستان، فبعد مليارات الدولارات التي أنفقتها الإدارات الأميركية المتعاقبة فشلت الولايات المتحدة في بناء دولة أفغانية قادرة على إدارة شئون البلاد بدون دعم القوات الأجنبية على أراضيها، حيث سقطت كافة مؤسسات الحكم الأفغانية في أيدي حركة طالبان التي خاضت ضدها واشنطن حربا على مدار عقدين قبل اكتمال عملية انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان.
وبعد كل هذه الأمور استغلت روسيا اخفاقات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط لتعزيز نفوذها العسكري والدبلوماسي في الدول الفاشلة بالمنطقة مثل سورية وليبيا لتقديم نموذجا مغايرا للنظام الدولي الراهن الذي تقود واشنطن، والذي أسسته على القيم والمبادئ الأميركية في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية. وكذلك تسعي الصين من جانبها أيضا إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي بالمنطقة، ليكون أحد أدوات الضغط على واشنطن في سياق المنافسة بينهما.
في الخلاصة لقد أثارت السياسات الأميركية خلال الإدارات الأميركية المختلفة والتي رفعت شعار "التوجه نحو أسيا" تارة و"أميركا أولا" تارة أخرى، وتلك التي أعطت الأولوية للداخل والتحديات العالمية الأكثر أهمية، والتي توجت بالانسحاب الأميركي من أفغانستان وما رتبه من فوضي قلق حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة حول الالتزام الأميركي بأمنهم الكثير من الجدل.
فعلى سبيل المثال، كانت هناك مخاوف عراقية من أن يؤدي انسحاب أميركي مماثل لاستيلاء الميليشيات الشيعية على السلطة، أو عودة تنظيم داعش مجددا، بعد النجاحات التي حققتها القوات الأمنية العراقية بدعم من القوات الأميركية أو من اندلاع حرب أهلية محتملة. ولا سيما بعد ما شهده العراق من تطورات مأساوية في أعقاب الانسحاب الأميركي من العراق في عام 2011 كذلك أثارت المشاهد التي رافقت عملية الانسحاب الأميركي من أفغانستان قلق الأقليات الكردية في كل من العراق وسورية التي تري أن الوجود الأميركي أساس لحمايتها.
لا شك أن الإدارة الأميركية خلال الأسابيع التي تلت عملية الانسحاب الأميركي، وما تركه من هواجس لدي حلفائها، قدمت بعض الرسائل التطمينية لهم بأنه في ظل إعادة صياغة التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط وسط التحديدات الداخلية والخارجية الأكثر إلحاحا، فإن المنطقة وأزماتها لا تزال على الأجندة الأميركية، وأنه من الصعب أن تنسحب واشنطن منها بصورة تامة، وإن لم تعد هي الأولوية للإدارات الأميركية المتعاقبة، رغم الجهود التي يبذلها بعض الحلفاء في المنطقة لاستمرار الانخراط الأميركي المكثف فيها من خلال جماعات الضغط (اللوبيات) الموالية لهم في واشنطن، ومحاولة جعلها شريكة وحليفة في مزيد من الأزمات بالمنطقة.