محمد أبوالفضل يكتب:
المعارضة الوطنية تخدم النظام المصري
حقق النظام الحاكم في مصر الكثير من النجاحات الأمنية الداخلية والخارجية، لكنه لا يزال يتردد أو يتلكأ في فتح المجال العام أمام القوى والأحزاب السياسية للعمل بحرية.
تجدد النقاش حول هذه القضية الأيام الماضية عقب ظهور البرلماني المعارض محمد ضياء الدين داود على إحدى القنوات التلفزيونية وهو سلوك غاب منذ سنوات، خاصة أن داود تحدث في ملفات شائكة بطريقة حملت انتقادات حادة لأداء الحكومة في بعض القضايا الحيوية بلا مواربة أو مجاملة.
لم تخرج ثورة في شوارع مصر بعد هذا الظهور غير المعتاد، ولم تهتز صورة الدولة أو تتأثر مؤسساتها، بل على العكس حُسبت الخطوة للنظام الحاكم على الرغم من تصميم مدافعين عنه على رفض الاستماع لأي صوت معارض ووجهوا طعنات سياسية للبرلماني الشاب الذي تحدث بعقلانية ووضوح وفي إطار المصالح الوطنية.
تعامل البعض مع جماعة المتطوعين على أنهم يعكسون صوتا مرتفعا داخل النظام الحاكم يريد استمرار غلق الأبواب والنوافذ أمام المعارضة، ورأى آخرون أنها اجتهادات شخصية من أناس سوف يتضررون كثيرا من أي إصلاحات سياسية تغير قواعد اللعبة التي عرفوها وأجادوا التأقلم معها والتكيف مع مقتضياتها وحققوا من ورائها مكاسب مادية ومعنوية مختلفة على مدار السنوات الماضية.
الواضح أن القاهرة على قناعة بأن ما جرى تطبيقه من معايير في التعامل مع المعارضة يجب تغييره بعد حدوث تحولات في الواقع المصري، فالمنطق الذي اعتُمد لتفسير التضييق تراجعت مبرراته، وهو أن الدولة تواجه تحديات أمنية ووجودية ولن تستطيع تقويض الإرهاب في ظل أحزاب يمكن أن تمثل منغصا لخطوات الدولة وتعطل الكثير من الإجراءات الدقيقة التي تتطلبها المراحل الانتقالية، في حين أن الأجهزة الأمنية حسمت معركة الإرهاب لصالحها وقدمت تضحيات باهظة.
كما أن الحديث عن تغلغل التيار الإسلامي في الشارع المصري الذي تستفيد منه جماعة الإخوان تلاشى عقب الهزات القوية التي تعرضت لها الجماعة والتيار عموما، وانتهى حضورهما السياسي تقريبا، بالتالي لا توجد دواعي للتضييق على الحريات، أو خطر من عودتهما على أكتاف المعارضة والتخفي بين صفوفها.
يحوي استمرار العزف على فوبيا الإخوان تناقضا في مضمون الخطابين الرسمي والشعبي اللذين تحدثا عن القضاء على القوة الرئيسية للجماعة المدرجة على قوائم الإرهاب في مصر والتي تنخرها الانقسامات حاليا.
لذلك من المهم التأكيد على التحولات الحاصلة في الأجواء العامة وما تحمله من استقرار وأمن وثبات وتطور يحققه النظام الحاكم باللجوء إلى تغيير المعادلة السلبية التي تقيّم بموجبها المعارضة، والبحث عن صيغة تمارس من خلالها دورا يمحو الصورة الهدامة التي لا يزال يحتفظ بها البعض في ذاكرته، وتضع كل أطياف المعارضة في خانة واحدة وبلا تفرقة بين إسلامية ومدنية أو عميلة ووطنية.
تظل إتاحة الفرصة أمام المعارضة للقول والفعل والحركة من معايير الحكم على التقدم الذي تشهده البلاد، ودون ذلك ربما تظل صورة الدولة قاتمة لدى المجتمع الدولي مهما حققت من تقدم، حيث يضع مسألة الحريات في مقدمة جدول أعماله، وحتى لو صرفت بعض الدول الكبرى النظر عنها مؤقتا لأسباب تقتضيها المصالح المتبادلة لن تتردد عند أول منحنى للخلاف في توظيفها والضغط على القاهرة.
لا أحد في المنظومة الرسمية ينكر خفية أو صراحة أهمية التعددية السياسية وتم الحديث عنها عدة مرات، لكن لم تتخذ بشأنها إجراءات تدعم عزم النظام على إدخال إصلاحات سياسية حقيقية تتوازى مع الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي جرت، كأن هناك خشية من الإقدام على خطوة من هذا النوع، ما يوحي بعدم قدرة الدولة على مواجهة التحديات، وهو يؤثر على صلابة النظام في تجاوز المخاطر الداخلية.
تشير بعض المعطيات الراهنة إلى عدم استبعاد حدوث انفراجة وانفتاح رسمي على المعارضة وتمكينها جزئيا من ممارسة دورها، لكن هناك فرقا بين إتاحة الفرصة لتقول ما تريد وبين فسح المجال أمامها تمهيدا لتدجينها، وبين إيجاد معارضة سياسية مصطنعة وقوى وأحزاب جاءت من أسفل وتشكلت من الشارع وتعبر عن طموحاته، وبين معارضة تم رسم توجهاتها وأخرى تضع جدول أعمالها بلا إملاءات سياسية.
تمثل عودة المعارضة أهمية للنظام المصري قبل أن تكون فرصة للشخصيات المعارضة، لأن بناء جمهورية جديدة لن يستقيم في ظل وجود صوت واحد لا يستطيع إنتاج رؤى تتناسب مع التطلعات والأحلام التي تنطوي عليها هذه الجمهورية، فالشعارات التي ترفعها قد تفقد مصداقيتها بعد قليل ما لم تكن مصحوبة بأفكار متنوعة، تؤيد وتعارض وتتحفظ، الأمر الذي يمنحها زخما يعزّز رؤيتها.
تنبع أزمة المعارضة في مصر من ثلاثة محددات رئيسية، أسهمت بدور كبير في تشويه صورتها والحد من أهميتها، وربما عدم الاعتداد بدورها أصلا.
الأول: استمرار الاعتقاد بأن عددا منها عملاء لقوى خارجية، فالمحصلة التي نجمت عن التحريات التي قامت بها أجهزة أمنية السنوات الماضية ربطت بين بعضها وأجهزة مخابرات أجنبية، وظهرت هذه المسألة في تقارير إعلامية وأعمال درامية، ما وضع المعارضة الوطنية وتلك المشكوك في ولاءاتها وانتماءاتها في كفة واحدة.
الثاني: نجاح جماعة الإخوان في الاستفادة من المعارضة وتوظيفها في عملية إسقاط نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، ثم القفز على السلطة بموجب تحالف واسع مع عدد كبير من عناصرها، ما خلق انطباعا في الشارع غذته بعض وسائل الإعلام يفيد بأن المعارضة ليست أكثر من جواد تمتطيه القوى الإسلامية للوصول إلى الحكم.
الثالث: اعتقاد دوائر في الحكم حتى الآن أن الفوضى في مجال الحريات التي سبقت وتلت سقوط نظام مبارك قادت إلى تضخيم دور المعارضة وأخرجتها من لعبة التدجين التي أدارها مبارك حتى أصبحت خطرا عليه، ما يستدعي عدم تكرار ذلك مرة أخرى، ويفسر أحد أسرار العزوف كلما لاحت في الأفق فرصة للإصلاح السياسي.
تغيّر هذه المحددات وضبط بوصلتها يتوقفان على قيام النظام المصري بتهيئة الأجواء وفقا لقوانين وضوابط يلتزم بها الجميع، أي أجهزة الدولة وقوى المعارضة، وإحداث تحول حقيقي في مسألتي التضييق والتدجين.
ولن يستفيد النظام المصري الذي يتطلع إلى تعديل الصورة النمطية عنه التي رسختها وسائل إعلام أجنبية بتركيزها على مجال الحريات من استمرار الأوضاع المشوهة، ولن تفلح الوسائل المحلية في تبديد الشكوك واستعادة المصداقية إذا واصلت طريقها في مخاطبة الخارج بالأدوات نفسها التي تستخدمها في مخاطبة الداخل، ولذلك سوف تظل المعارضة الوطنية في خدمة النظام المصري.
-----------------------------------
نقلا عن العرب