صابر بليدي يكتب:
ماذا بعد "قطع رؤوس المؤامرة"!
في آخر تصريح لرئيس الدبلوماسية الجزائرية ذكر أن “بلاده لا تمارس دبلوماسية مكبر الصوت وأنها تسجل مواقفها بهدوء”، وهو ما يوحي بأن دعاة المقاربة الجديدة للدبلوماسية الجزائرية يسود لديهم انطباع بأنهم حققوا أشواطا معتبرة في “تحييد رؤوس المؤامرة” التي كانت تستهدف الجزائر. لكن إذا كانت الدبلوماسية هي كل متكامل، والأمر لا يتعلق بجهاز أو كادر معين، وإنما بمنظومة متكاملة ومتجانسة تصب كلها في إعلاء كلمة وصوت البلاد في المحافل الإقليمية والدولية، فإن قوة وضعف أي دبلوماسية تستمد من قوة وضعف البلاد بشكل عام، وإذا تم تحييد “رؤوس المؤامرة” كما يقال، فكيف يتم التعامل مع باقي الملفات المقلقة؟
لقد كانت السلطة الجزائرية مصرة على قطع العلاقات المنهكة أصلا مع المغرب، وأغلقت جميع الأبواب في وجه أي مسعى حتى لعودة الوضع السابق في ظل إجماع لدى دوائر القرار بأن الرباط وراء الكثير من المشاكل الداخلية المتعلقة باستهداف وحدة وتماسك الجزائر. وفي نفس الاتجاه تسير العلاقات مع الشريك الأوروبي الأول، المتهم هو الآخر باحتضان حركة “ماك” الانفصالية، وتجاهل باريس لدعوات تسليم قادتها المطلوبين.
وبغض النظر عن الأسباب الأخرى التي عددتها صحيفة لوموند الفرنسية في آخر مقال لها عن العلاقات الفرنسية – الجزائرية، فإنه بهذا الوضع الجديد تكون قد حيدت أكبر طرفين “ضالعين في التهديدات” التي علقت عليهما شماعة المؤامرة طيلة السنوات الأخيرة، وطوت الامتدادات الخارجية لحركة “ماك”، الأمر الذي سيفضي وفق هذا المنطق إلى أن السلطة الحاكمة لم تعد منزعجة من التهديد المذكور، وستتفرغ لمعالجة الملفات الأخرى، لاسيما الجبهة الداخلية المنهكة بتراكمات كثيرة.
وإذا كانت الخطوة القادمة صدور القوانين والنصوص المصنفة والمرتبة للتنظيمات الإرهابية وللإرهابيين لقطع الطريق أمام أدق المسامات التي يمكن أن يمر عبرها هذا التنظيم أو ذاك العنصر، فإنها ستكون حتما نهاية للتهديدات المحتملة، وهو ما سيزيح عنها أي مبرر للتأخر لحظة في التفرغ لمعالجة الأزمة الداخلية، وهو ما يطرح التساؤل ماذا سيكون ردها هذه المرة إذا تأخرت أو أخفقت في علاج هذه الأزمة أو تلك؟ ففي السابق كانت تعلقها على مشجب المؤامرة، والآن ماذا يبقى لها لتقوله للشارع الجزائري؟
في المأثور الجزائري يقال “المال يصنع الطريق في البحر”، و”المال ينطق الأبكم”، وهما قولان قريبان من ترجمة دور المال ومن ورائه القوة الاقتصادية في صناعة المستحيل وفي صناعة المكانة الاجتماعية، وهو ما يمكن إسقاطه على دور الجبهة الداخلية المتماسكة والاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي في صناعة الثقل الدبلوماسي.
الشارع الجزائري الذي عبر عن رأيه وموقفه وتصوره في الحراك الشعبي هو الآن في وضع “القوي المنتصر” بعدما سرق منه حلمه وأجهض طموحه
والدبلوماسية ليست جهازا إداريا تراتبيا وورقة طريق يومية، وليست وجوها مخضرمة أو محنكة فقط، بل هي قوة داخلية تدعم موقفها الخارجي وتقوي كلمة وموقف العاملين فيها في المحافل والمقامات، فالخطابات الشعبوية والشعارات الرنانة يمكن أن تستغفل شعبا لوقت محدود لكن ليس لكل الوقت، لأنه ليست هناك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، وإنما هناك مصالح مشتركة، وصديق اليوم قد يكون عدو الغد والعكس صحيح، بينما المصالح المشتركة هي الخالدة.
في خمسينات القرن الماضي كان مشروع الاتحاد المغاربي ووحدة شعوب المنطقة الأجندة التي تتصدر طموحات النخب السياسية في دول المنطقة، لكن منذ الستينات غلبت المصالح الضيقة للحكام على حساب طموحات الشعوب، وشيئا فشيئا يسير المشروع إلى أن يصبح محطة الماضي، لكن للأجيال منطق آخر وقد يصبح أمرا واقعا.
وإذا كان تعليل “التغطية على المشاكل والأزمات الداخلية” هو شعار مناكفات الطرفين الجزائري والفرنسي أو الجزائري والمغربي، في وقت سابق، لكن الآن ما دامت شعرة معاوية قد قطعت، فإن الأولوية يفترض أن تتوجه لمعالجة الأوضاع الداخلية، فبعد التسوية المفترضة لمسألة التهديدات الإقليمية والدولية بات يتوجب على السلطة الجزائرية التفرغ لانشغالات ومشاكل الشارع الجزائري.
بعد أسابيع قليلة يغلق الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون عامه الثاني على رأس الجمهورية، ولا يزال الجزائريون ينتظرون نزوله إلى الميدان للحديث معهم والاستماع إلى انشغالاتهم ومشاكلهم، وحتى جائحة كورونا التي شلت العالم صارت طيفا ولا يمكن أن تكون عذرا يستخدم لتبرير اعتكاف الرئيس في قصر المرادية.
الجزائريون الذين اجتاحهم الفقر والعوز لأسباب مختلفة لا زالوا ينتظرون الجديد من هذه السلطة التي تصف نفسها بـ”الجديدة”، ولا زالوا ينتظرون برنامجا حكوميا يتكفل بهم وينهض بالبلاد، وليس مجرد موظفين فشلوا أمام الجميع، مضاربين، ومحتكرين وعصابات ولوبيات، وحتى أمام شيخ مسن سحب مبلغا هاما من حسابه في البريد فسبب أزمة سيولة مالية!
الشارع الجزائري الذي عبر عن رأيه وموقفه وتصوره في الحراك الشعبي هو الآن في وضع “القوي المنتصر” بعدما سرق منه حلمه وأجهض طموحه، لكن السؤال المطروح ماذا يمكن للرئيس تبون أن يفعل في نصف عهدته الرئاسية المتبقي، وقد استنفد النصف الأول في خطاب لا يعدو أن يكون إلا مجرد ردود فعل على ندرة حليب وزيت وسيولة مالية، وشح مياه وارتفاع أسعار وانهيار الدينار وبطالة، وتوسع لائحة الفقراء.. وغيرها؟
عامان انقضيا من عهدة ساكن قصر المرادية والفجوة بين السلطة والشارع في تمدد، وها هي البلاد مقبلة على انتخابات محلية، وهناك بلديات لم يتقدم فيها أي مرشح لاختبار نفسه أمام سكان بلديته، وهي سابقة أولى من نوعها في تاريخ البلاد تكرس حجم سقوط مبدأ الانتخاب كوسيلة للتغيير أو التداول على السلطة في الجزائر.
وتعاني الجزائر من هجرة سرية فظيعة، فقد سجلت السلطات الإسبانية قدوم نحو 5 آلاف جزائري إلى ترابها على متن قوارب الموت خلال شهر سبتمبر، لكن السلطة لا زالت تتجاهل تفاقم الظاهرة، والحكومة تلتزم الصمت تجاه جزائريين من مختلف الفئات والأعمار ومن الجنسين، فقدوا الأمل في كل شيء، وصارت مراكز العبور في إسبانيا أو الموت بين فكي الحوت في أعماق المتوسط أفضل من البقاء في وطنهم.
ولغاية الآن لم تنطق الحكومة التي ضيعت وقتا طويلا في مناكفات المؤامرات والتهديدات والأخطار الخارجية بأي كلمة توضح كيف ستتعامل مع تركة الداخل، لأن الخطر الحقيقي يكمن في غياب مخطط عمل حكومي يقوم على الاستشراف والتخطيط لاحتواء كل الأوضاع، لأن سياسة ردود الفعل هي مسكنات ألم وليست علاجا حقيقيا للأزمة.