صابر بليدي يكتب:

لقاء تبون وماكرون.. الشكل أهم من المضمون

في أحسن الأحوال ترك موعد الزيارة المؤجلة للرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في منتصف شهر يونيو القادم ولم يحدد لها تاريخ معين، وهو ربما ما يخفي هاجس المنظمين وجهاز التشريفات من تعرض الأجندة لسحابة أخرى، كما حدث مع المواعيد السابقة، ولذلك لم يغامروا بإعلان موعد محدد، تفاديا لأي حرج، كون علاقات البلدين تتأثر حتى بنسمة توتر خفيف.

واللافت أن العلاقات الجزائرية – الفرنسية لم تعرف تذبذبا طيلة العقود الماضية مماثلا لما عرفته خلال السنوات الثلاث الأخيرة، رغم عبارات المجاملة المتبادلة بين الرئيسين تبون وإيمانويل ماكرون، ولذلك بات الهدف المنشود هو تنفيذ الزيارة ولا تهم النتائج والمخرجات، فالإرادة الرسمية سئمت من مسلسل المطبات المفاجئة.

في منطق الحسابات السياسية والإستراتجية يحتاج البلدان إلى بعضهما البعض، ومصالحهما المشتركة أكبر من الخلافات المتناسلة، لكن المسار في حاجة إلى خطوات ثقة بالدرجة الأولى، أكثر مما هو في حاجة إلى صور استعراضية أو قبلات غير عادية بين الرجلين.

يبدو أن فرنسا المهتمة بتطبيع علاقاتها مع الجزائر لا تملك في أجندتها حلولا للاختلالات الاقتصادية والاجتماعية لدى شريكها الشمال أفريقي

زيارة تبون إلى باريس كانت مبرمجة مطلع الشهر القادم، لكن شيئا ما مثل الأشياء السابقة استجد بشكل مفاجئ وحال دون تنفيذها في الموعد. والآن بعد تحديد موعد جديد لها، يجب التساؤل، هل الأسابيع القليلة القادمة كفيلة باحتواء المسألة التي كانت وراء التأجيل؟ وهل الرئيسان قادران على تجاوز تلك المطبات بمخرجات ملموسة، أم يكتفيان بطقوس شكلية يتجنبان بها الحرج فقط؟

الركام الثقيل الذي تجمع على مدار قرن وثلث قرن من الزمن ومن الوضع الاستعماري الهمجي، لا زال يلقي بثقله على العلاقات الجزائرية – الفرنسية، لذلك لم تجد ماهيتها وهويتها طيلة العقود الستة الأخيرة، حيث أخذت طيلة تلك الفترة منحنى متذبذبا لا يستقر على وضع معين. وفوق ذلك هو ذو طبيعة حساسة جدا ينخفض ويرتفع لأبسط الأسباب.

لكن هل بوسع تبون وماكرون، بمقاربتهما الجديدة، أن يجدا حلا يخرج العلاقات بين بلديهما من هذا النفق؟ الرجلان اللذان اتفقا سابقا على تفكيك الخلاقات وترتيب الأولويات سرعان ما وجدا نفسيهما حبيسَي ارتباك حال دون تحديد موعد يجمعهما في باريس، لذلك لا يعول كثيرا على زيارة استقطبت واستهلكت الكثير من الأضواء والحبر.

الرئيس الجزائري المزهو بخطاب شعبوي متنام في دوائره السياسية والإعلامية حول السيادة القومية وتعاظم الدور الإقليمي لبلاده، وبرسائل تودد تطلقها له قوى وشركاء إقليميون ودوليون، يريد تحويل معطى تغير ميزان القوة بين الجزائر وباريس إلى مكاسب توظف في الداخل، حتى ولو لم يفتك أي إنجاز ملموس يتعلق بالمطالب التقليدية لبلاده من فرنسا.

واعتبرت وسائل إعلام جزائرية، بعد الكشف عن تأجيل زيارة مايو القادم، أن الأوضاع الاجتماعية وعدم الاستقرار الذي تعيشه فرنسا بسبب الاحتجاجات على قانون التقاعد تقف خلف القرار الذي اتخذه الطرفان. وهو ما يريد الرئيس تبون استغلاله في لعبة موازين القوى، باعتبار أن بلاده تعيش حالة من الاستقرار حتى ولو كان قسريا.

خلال زيارة ماكرون إلى الجزائر في أغسطس الماضي تم التوصل إلى “إعلان الجزائر”، وخلال زيارة رئيسة الوزراء إليزابيت بورن رافقها نصف تعداد الحكومة الفرنسية. رغم ذلك لا شيء تحرك إلى حد الآن على الصعيد الاقتصادي والاستثماري والتجاري والاجتماعي، وهو ما يوحي بأن باريس لا زالت بعيدة عن مرحلة التنفيذ، وما يشغلها الآن هو الأولويات وتوضيح الأدوار المتبادلة.

هل بوسع تبون وماكرون، بمقاربتهما الجديدة، أن يجدا حلا يخرج العلاقات بين بلديهما من هذا النفق؟.. الرجلان سرعان ما وجدا نفسيهما حبيسَي ارتباك حال دون تحديد موعد يجمعهما في باريس

ويبدو أن فرنسا المهتمة بتطبيع علاقاتها مع الجزائر لا تملك في أجندتها حلولا للاختلالات الاقتصادية والاجتماعية لدى شريكها الشمال أفريقي، رغم أنها فقدت مرتبتها في سلم الشراكة لصالح الصينيين والأتراك، وأولوياتها الآن افتكاك انسجام إستراتيجي في ملفات الأزمة الأوكرانية والنفوذ المتلاشي في الصحراء والساحل الأفريقي.

وفوق ذلك كله، باريس ليست مستعدة على ما يبدو للتضحية بقيمها السياسية والديمقراطية، لتلبية مطالب الرئيس تبون تسليمه عددا من المعارضين السياسيين وحركة “ماك” الانفصالية، رغم ما يمثله الأمر من مكسب سياسي وشعبوي للرجل في حال تم تحقيقه، من أجل تقويض جبهة المعارضة الصامتة في الداخل.

وهو ما قابلته تقارير فرنسية بالقول إن التأجيل جاء لعدم تلبية الفرنسيين لطلب جزائري يضمن احتواء احتجاجات محتملة تحرج الرئيس تبون في باريس من طرف ناشطين سياسيين معارضين لنظامه، مما يؤكد أن النظامين باتا يبحثان عن شكل الزيارة أكثر من محتواها أو مخرجاتها.

يجمع المراقبون على أن العلاقات بين الطرفين هي حتمية للبلدين، فباريس هي بوابة الجزائر نحو أوروبا، والجزائر هي بوابة فرنسا إلى أفريقيا، وكلا البلدين تعترضه معوقات مستجدة؛ فرنسا فقدت نفوذها التاريخي في الساحل والصحراء، والجزائر تعيش أزمة مفتوحة مع إسبانيا. لكن رغم ذلك لا شيء في الأفق يوحي بأن اللقاء المرتقب سيتوج بفتوحات جديدة للطرفين بسبب هيمنة الشك والشكليات عليه.

فرنسا تعلم أنه من الصعب جدا تحييد الجزائر عن المحور الروسي خاصة في الأزمة الأوكرانية، والجزائر تعلم أيضا أن فرنسا هي جزء من المنظومة الأوروبية ولا يمكن أن تفتك منها معالجة مرضية في ملف التاريخ والذاكرة المشتركة أو الانحياز لمقاربتها في قضية الصحراء.