خير الله خير الله يكتب:

عودة "داعش" في العراق... ضرورة ايرانيّة

فجأة عاد "داعش" ينشط في العراق. لم ينشط "داعش" يوما من دون تحريك له من بعيد عن طريق النظامين الإيراني والسوري. في النهاية، خرج قادة "الدواعش" من سجون عراقيّة وسوريّة في وقت كان مطلوبا اظهار النظام السوري في مظهر من يحارب الإرهاب والتكفيريين.

تلك تجارة رائجة يتقنها النظامان الإيراني والسوري عن ظهر قلب. يلجآن اليها دائما في الوقت الذين تدعوهما الحاجة الى ذلك. وصل بهما الامر في مرحلة معيّنة الى تسليط "داعش" على لبنان من اجل تخويف المسيحيين فيه وجعل "حزب الله" يعتمد خطابا سياسيا يوحي بانّه المحافظ على الاقلّيات في المنطقة وانّه حامي المسيحيين في لبنان وسوريا في الوقت ذاته. هناك من انطلى عليه هذا الخطاب الذي لا يمت للحقيقة والواقع بصلة.

يبدو مطلوبا في الوقت الحاضر اخذ العراق الى مكان آخر وإظهار انّ لا حياة للعراق ولا مستقبل له ولأبنائه في غياب "الحشد الشعبي" الذي يرفض الاعتراف بنتائج الانتخابات الأخيرة، هو وأحزاب ايران. بكلام أوضح، لا حياة للعراق ولا مستقبل له من دون دور إيراني فاعل على كلّ صعيد ومن دون سيطرة ايرانيّة على الحياة السياسيّة والاقتصادية في البلد. هل افضل من عذر اسمه "داعش" ومجازر يرتكبها في ديالى وغير ديالى لتبرير الحاجة الماسة الى "الحشد الشعبي" ودوره؟

لم تناسب نتائج الانتخابات الأخيرة ايران، على الرغم من المواقف المتقلّبة لمقتدى الصدر الذي صار يمتلك اكبر كتلة برلمانية في المجلس النيابي الجديد. تبيّن، أقلّه في الوقت الراهن، أنّ مقتدى الصدر قرّر السير في خط مستقل عن "الجمهوريّة الاسلاميّة". ليس معروفا كم سيستمر ملتزما هذا الخط، لكنّ كل التطورات العراقيّة الاخيرة تشير الى انّ الرجل يبدو مصمما على اعتماد خط مستقلّ عن ايران يقوم على رفض أي سلاح خارج سلاح الدولة العراقية. مثل هذا الخط يتعارض كلّيا مع التوجّه الإيراني القائم على استنساخ تجربة "الحرس الثوري" في العراق عن طريق "الحشد الشعبي" الذي يجسد من وجهة نظر "الجمهوريّة الاسلاميّة" المستقبل الذي تراه للعراق. أي العراق كبلد كتابع لإيران ليس الّا.

من هذا المنطلق، لم تعجب نتائج الانتخابات العراقيّة ايران. مطلوب تغييرها بالقوة... او بالتي هي احسن... او عبر إعادة "الحشد الشعبي" الى الواجهة بصفة كونه ضرورة لا مجال لتجاوزها من اجل مواجهة "داعش" الذي استعاد نشاطه بقدرة قادر.

ثمّة فرصة لا يمكن لإيران اضاعتها. برزت هذه الفرصة امامها بعدما قرّرت الإدارة الأميركية الانسحاب من المنطقة تدريجيا. ليس ما يشير الى تراجع عن الرغبة في الانسحاب لدى إدارة جو بايدن وذلك بعدما نفّذت انسحابا عسكريا من أفغانستان. نفّذت الانسحاب بطريقة اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها عشوائية. أرسلت الإدارة كلّ الإشارات الخطأ في الوقت الخطأ، خصوصا الى حلفائها العرب والاوروبيين. وجدت ايران انّ هناك فراغا لا بدّ من ملئه. لذلك نجد كلّ هذه الافعال الهجوميّة التي تمارسها "الجمهوريّة الاسلاميّة"، اكان ذلك في العراق أو سوريا ولبنان أو اليمن حيث تبدو مصرّة على وضع اليد على مدينة مأرب وذلك كي تكتمل مقومات الدولة القابلة للحياة التي تنوي تكريس وجودها في شبه الجزيرة العربيّة على جزء من ارض اليمن.

يشكل العراق حلقة اساسيّة في المشروع التوسّعي الإيراني الذي ترفض إدارة بايدن اخذ العلم به. هذا ليس وقت إضاعة العراق الذي سعت ايران منذ العام 1979 إلى إخضاعه وخاضت حربا استمرّت ثماني سنوات (بين 1980 و1988) من اجل تحقيق مثل هذا الغرض. استثمرت ايران طوال سنوات في كلّ ما من شأنه وضع اليد العراق. كان العراق الهدف الاوّل لآية الله الخميني الذي اقام فترة طويلة في النجف بعد إخراجه من ايران في ايّام الشاه الرحل. كان حقد الخميني على العراق من النوع الذي لا حدود له... إلى ان ارتكب صدّام حسين خطيئته القاتلة عندما قام مغامرته المجنونة في الكويت صيف العام 1990. كانت ايران المستفيد الأكبر من تلك المغامرة وكانت لاحقا المستفيد الوحيد من قرار ادارة جورج بوش الابن اجتياح العراق عسكريّا في العام 2003 بهدف إقامة نظام جديد. شاركت ايران في التخطيط لمرحلة ما قبل الحرب الاميركيّة والعداد لها بأن فرضت شروطا خاصة بها قبل بها الاميركيون. من بين هذه الشروط تضمين النص الذي صدر عن مؤتمر المعارضة العراقية عبارة "الاكثريّة الشيعية في العراق". انعقد ذلك المؤتمر برعاية أميركية وايرانيّة في كانون الاوّل – ديسمبر 2002 ووضع الأسس لما سيكون عليه النظام العراقي الجديد في مرحلة ما بعد إزاحة صدّام حسين.

لم تبذل ايران كلّ هذه الجهود من اجل ان تهزم في انتخابات عراقيّة وكي تقف في وجهها شخصية مثل مقتدى الصدر. لم تنشئ "الحشد الشعبي" كي يأتي يوم يقول فيه سياسيون عراقيون انّ لا سلاح غير سلاح الشرعيّة. ايران ليست جمعيّة خيرية. تعرف تماما ان الانطلاقة الجديدة لمشروعها التوسّعي كانت في العام 2003 بعدما سلمتها إدارة بوش الابن العراق على صحن من فضّة وبعد قرار المفوض السامي الأميركي القاضي بحلّ الجيش العراقي. لم يحلّ الجيش العراقي كي يأتي مصطفى الكاظمي ويعمل من اجل تعزيز هذا الجيش الذي كان عليه ان ينهار مرّة أخرى في العامين 2020 و2021 على غرار ما حصل ايّام نوري المالكي عندما اجتاح "داعش" الموصل في العام 2014.

ممنوع على العراق استعادة توازنه بين ايران والدول العربيّة، التي كان من بينها في الماضي القريب. ممنوع على العراق ان يتنفّس بفضل انتخابات او ايّ امر من هذا القبيل. ممنوع على العراق ان يقول بالفم الملآن انّه العراق وان ايران هي ايران. لكلّ هذه الأسباب، صار ظهور "داعش" مجددا ضرورة ايرانيّة من اجل منع الانتخابات من ان تصير خطوة أخرى على طريق استعادة البلد شخصيته لا اكثر.