د. ساسين عساف يكتب:
فاعلية الفقه الإسلامي في التجدّد الحضاري
الفقه مجموعة مفاهيم دينية نموذجية انتهت مع الرسول (صلعم) لأنّ الإسلام النصّي كما هو وارد في القرآن الكريم والحديث الشريف شيء والفقه بعد الرسول شيء مختلف لأنّه من وضع العقل البشري الذي تتبدّل أحواله بتبدّل المعطيات الواقعية التي تحيط به وتعمل على تكوينه، ولأنّه، تالياً، خاضع لفاعلية العقل التي تطلقها مناهج العلوم والمعارف المستحدثة وتطبيقاتها. فاعلية العقل البشري قد تصيب وقد تخطئ خصوصاً متى استمدّت قوّتها من الإيديولوجيات والفلسفات السياسية، وفي الحالين يفضي عملها إلى "أدلجة الدين."
الفقه الإسلامي ثنائي المصدر: الوحي والعقل لا النقل والعقل. الفارق بينهما هو العلاقة المباشرة بين العقل والوحي (النصّ القرآني والحديث النبوي) بدون وسيط الذي هو النقل. الوسيط يستخدم للإستنارة في بعض الحالات ولا يركن إليه في كلّ الحالات.
بحكم خضوعه لفاعلية العقل في اتصاله المباشر بالوحي يتغيّر الفقه بتغيّر الأزمنة والأمكنة فالفقه المعاصر ينتجه عقل معاصر، وهو الفقه المعروف حالياً ب "فقه اللحظة."
فقه اللحظة مرتبط بالأحكام القانونية وخاضع لقانون التطوّر والتغيير، قانون التحدّي والإستجابة، تحدّي الأسئلة والأجوبة عنها. هذا القانون يحدث مناطق الفراغ التشريعي فيسوّغ فقه اللحظة.
من مسوّغات هذا الفقه كذلك أنّ الإسلام لا يفرض نصّاً مغلقاً مختصّاً بالأحكام القانونية فالنصّ القرآني نصّ مرجعي موجّه للعقل البشري ومحفّز له على الإجتهاد المستمرّ في التفسير والتأويل. من هنا تتعدّد الآراء وتتنوّع الأحكام خصوصاً في الشأن السياسي ولكن دائماً تحت سقف ما تمليه توجيهات النصّ القرآني من قيم وأحكام سياسية ثابتة: الشورى والعدل والعدالة والحريات والمساواة أمام القانون ومساءلة الحاكم.
هذه القيم والأحكام ترتقي بالممارسة السياسية إنسانياً وأخلاقياً وتجعلها ممارسة حضارية.
هذا المعيار الحضاري لممارسة الحكم يحدّد مدى قرب أو بعد هذه الدولة أو تلك من قيم الإسلام وأحكامه ومن مواصفات الدولة الجضارية.
منظومة القيم الإسلامية أسقطها "الفقه السلطاني" فأجاز قيام حكم الإستبداد السياسي والتخلّف الحضاري وتقييد الحريات التي بدونها لا إبداع ولا تقدّم في أيّ من مجالات المعارف والعلوم والدراسات الفقهية. فالإسلام ليس هو المشكلة في مسألة النهوض الحضاري وإنّما المشكلة هي في "الطغيان السلطاني" وفي حركات الإسلام السياسي التي تقاتل في سبيله.
الإسلام، في رأي الكثيرين من أهل العلم والفقه والإجتهاد، حركة إنطلاق لا جمود في تنظيم سوسيولوجيا الشعوب وفق مناهج عقلانية تجريبية علمية (جابر بن حيّان هو مؤسّس النزعة التجريبية العلمية في الثقافة العربية) واقعية وتاريخانية.
يستفاد من هذا الرأي أنّ الإسلام لا يقيّد العقل الإبداعي التساؤلي والتأويلي والشكّي والنقدي ما يعني أنّ الحرية الفكرية مبدأ إنشائي وحقوقي في الإسلام.
الحرية الفكرية هي أساس كلّ تطوّر حضاري، هذا في جانب. منظومة القيم الإسلامية لا تفرض الفكر بالقوّة بل تكتفي فقط بتوجيه مسلكيات الفرد والجماعة، وهي كذلك أساس لكلّ تطوّر حضاري، هذا في جانب آخر. وإذا اجتمع الجانبان، وهما مجتمعان في الإسلام، اكتملت صورة النهوض الحضاري.
الحرية الفكرية المستندة إلى منظومة القيم الإسلامية تناهض الإيديولوجيات الشمولية التي تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة وتجنح إلى النسبية والتاريخانية والتعدّدية وحقّ الإختلاف وحقّ الخطأ . من أدلجوا الإسلام أوقعوه في الشمولية الفكرية والإطلاقية وجعلوه يعلو فوق تناقضات الحياة التي توفّر للتاريخ، بصراعاتها، دينامية الحركة والتحوّل وللشعوب الحدّ من طموح أيّ توتاليتارية دينية أو مذهبية لفرض رؤياها الثابتة وسلطتها المستبدّة وفكرها الجامد تقتصر على جماعة تدّعي العصمة وترمي معارضيها بالكفر.
هذه الجماعة تمثّل "إسلام الفتنة والتحريض"، أمّا إسلام الدعوة والرسالة فيجسّد صورة النهوض الحضاري المطلوب.
"إسلام الفتنة والتحريض" وباء خطير يسمّم العلاقة بين المسلمين وبينهم وغير المسلمين. إنّه يدمّر جسور التواصل ويقطع الروابط الإنسانية ويفرغ الثقافة من محتواها القيمي. الفتنوي المحرّض يتحوّل من عدائي إلى عدواني، عدوّه هو الآخر المختلف عنه في الدين والقومية والعقيدة وحتى في الجغرافيا والتاريخ، وطبعاً في الحضارة! عدوّه مشروع إبادة.. ثقافته مغلقة وأحادية.. ومثلها مصاب بالعقم الحضاري والعدمية.. وسيلته "الإكراه والعنف الديني."
في مواجهة الفتنويين التحريضيين العنفيين ثمّة إسلام سياسي معتدل مؤمن بالحرية والمساواة والعدالة بين المواطنين، ويؤمن بوحدة المجتمع على أسس غير دينية، أسس المواطنة وحقوقها. طبعاً هو يعمل لبناء مجتمع إسلامي ولكن بالوسائل الديموقراطية من طريق الإحتكام للشعب ومن خلال الترشّح للإنتخابات النيابية وتقديم البرامج للرأي العام والتنافس على المقاعد وعقد التحالفات مع قوى وأحزاب علمانية، ومن خلال المشاركة في السلطة التنفيذية وعدم تكفير النظام والإعتراف له بالشرعية الدستورية وعدم الدعوة للإنقلاب على الدستور وتغييره بدستور دولة دينية.
هذا هو الإسلام السياسي الحضاري الذي يعتمد السياسة قاعدة للتنافس السلمي بين الأفكار لا الصراع الديني بنزعتيه الطائفية والمذهبية.
هذا المنهج العقلاني هو واحد من مناهج "فقه المشاركة" الذي هو نقيض "فقه القطيعة".
من مفاعيل "فقه المشاركة" ما يأتي:
- صون الحريات السياسية لجميع المواطنين وتكريس المواطنة قاعدة للمجتمع السياسي.
- حفظ كرامة المواطن وحقوقه في المشاركة بإدارة الشؤون العامة.
- حماية الحقوق المدنية والقانونية لجميع المواطنين بوصفهم أفراداً يعيشون في كنف دولة مدنية باعتماد النظام الدستوري المبني على إرادة الشعب في اختيار منظومة القوانين المدنية التي تنظّم شؤونه.
- تعزيز الوجه المدني الحضاري للإسلام السياسي العقلاني.
"فقه المشاركة" في جانب منه هو "فقه التعامل الإيجابي" بين المسلمين وغير المسلمين ، من أبرز نقاطه:
- الإسلام يعترف باليهودية والمسيحية، ويتعهّد بالحفاظ على التعدّد الديني في المجتمع الواحد. الوجه الحضاري فيه يعود إلى "العهدة النبوية" و "دستور المدينة" اللذين يشكلان الإطار المرجعي التأسيسي لفقه التعامل مع أبناء الدياناتين اليهودية والمسيحية.
- الإسلام دين الجدال والحوار وحسن التبليغ.
- الإسلام دين العدل والمساواة بين الناس.
- الإسلام دين الحريات الوجودية والفكرية والإيمانية.
"فقه المشاركة" مشفوعاً ب "فقه التعامل مع الآخر غير المسلم" يؤكّد أن الإسلام يمتلك الإرادة الفعلية في إحلال السلام بين البشر، والسلام هو الوجه الأرقى حضارياً في التعبير عن معنى الوجود الإنساني.