د. عيدروس النقيب يكتب:

30 نوفمبر الخالد أبداً رغم كل شيء

لا يحتاج الأمر إلى تفسيرٍ طويلٍ ومتشعبٍ ولا إلى حملةٍ دعائيةٍ صاخبة، فقد كانت معركة التحرير مصيرية بكل المعاني وخاض الشعب نضالاته المستميتة وقدم التضحيات الجسيمة، في سبيل تحقيق التحرير الناجز والاستقلال غير المشروط وغير المرهون بأية إرادة إلا الإرادة الشعبية وقد تحقق له ما أراد.

لقد مثل انتصار نوفمبر رد اعتبار للتاريخ الجنوبي وللأمة العربية عامةً، خصوصاً وقد جاء بعد مضي خمسة أشهر على هزيمة حزيران التي تعرضت لها الجيوش العربية بفعل العدوان الإسرائيلي في الخامس من يونيو من نفس العام، على بلدان المواجهة مصر والأردن وسوريا وفلسطين ولبنان، جاء نوفمبر ليعيد الأمل إلى النفوس التي أحبطتها الهزيمة والأرواح التي أصابتها النكسة باليأس والانكسار.

وعندما نقول أن هذا التاريخ (الثلاثين من نوفمبر 1967م) سيظل خالداً في ذاكرة الأجيال فهذا لا يأتي اعتباطاً أو من باب الدعاية الإعلامية وحملات العلاقات العامة، ولكن من منطلق التحول الجذري الذي أنجزه هذا الحدث الكبير في حياة السواد الأعظم من أبناء الجنوب، الذين لم يكونوا يعرفون معنى الانتماء ولا قيمة المواطنة ولا مفهوم الهوية إلا بعد الثلاثين من نوفمبر وميلاد دولة الجنوب الحرة الفتية المستقلة.

لا يتذكر الجنوبيون يوم الاستقلال ويمجدونه فقط لأنه كان يوم تحرر البلد من ربقة الاستعمار وإعلان الدولة الجنوبية الجديدة بعد توحيد أكثر من 23 دويلة في دولة واحدة، وهذا كان يكفي للتباهي والاحتفاء بالحدث، لكن الجنوبيون يتذكرون هذا اليوم الخالد ارتباطاً بالتحولات النوعية التي أحدثها قيام دولة الاستقلال في حياتهم والتي نقلتهم من مجرد أرقام هامشية في قوائم سكان البلدان التي قد لا تذكر في المحافل والمستندات الدولية إلى خانة المواطنة مكتملة الأركان، التي يتمتع فيها المواطن بحقوقه السياسية والاجتماعية والثقافية – المادية والمعنوية – ويغدو فيها سيداً على أرضه ومشاركاً في صناعة القرار، ومستمتعاً بما توفره له دولته الفتية من حماية وأمن ونظام وقانون وخدمات قل نظيرها في دول الجوار رغم محدودية الموارد ورغم حداثة التجربة ورغم الحصار الذي تعرضت له من قبل الكثير من الأشقاء.

بعد 54 عاما على هذا اليوم العظيم، وبرغم الانتكاسة التي تعرضت لها التجربة الجنوبية من خلال الحرب العدوانية واجتياح الأرض وتدمير الحياة المؤسسية والاقتصادية ونهب الموارد وتهميش المواطن الجنوبي والعبث بمقدرات البلد وتقاسم كل ما على الأرض كمكافآت لأساطين العدوان والغزو، أقول رغم كل هذا ما تزال وستظل قيمة نوفمبر حيةً محفورةً في ذاكرة الأجيال ومدونةً في أنصع صفحات التاريخ خالدةً خلود هذه الأرض وشعبها الأبي المعطاء والمكافح الرافض للظلم والقهر ومحاولات الاستحواذ على الإرادة الشعبية ومصادرتها من قبل غزاة الأمس واليوم وورثتهم متعددي الأوجه والصور.

*         *         *

الحملة العدائية على يوم الاستقلال الوطني (30 نوفمبر 1967م) وقبله ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة،  ليست جديدة فهي تمتد إلى الأيام الأولى للثورة، وقد استمرت طيلة سنوات ما بعد الاستقلال، وتعود أسباب هذه الحملة إلى عوامل شتى، معظمها يرتبط بصراعات تلك المرحلة وما شهدته من فرز سياسي ومجتمعي له حيثياته التي ليس هذا مقام تقييمها، لكن المتضرر يلجأ دائماً إلى التشهير بمن يعتبره السبب في تضرره، وذلك أمر مفهوم وحالة شهدتها كل ثورات العالم.

بيد إن الحملة الجديدة ضد 30 نوفمبر وقبله 14 اكتوبر المجيدين تتخذ هذه الأيام صورةً  مغايرةً، فالتباكي على زمن الاستعمار البريطاني لم يعد مقبولاً ولا يجدي نفعاً للقائمين عليه، لذلك يلجأ بعض المشوشين أو المأزومين ذهنياً إلى استدعاء مبررات أقل ما يقال عنها أنها خرقاء تفتقد لأي مضمون أو معنى، من قبيل أن تسمية جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية كانت هي السبب في غزو الجنوب واحتلاله من قبل الدولة التي يفترض أنها كانت شريكة في مشروع “الوحدة اليمنية ” الفاشلة.

لن ننساق في الرد على التفاصيل البلهاء لهذه الحملة البائسة التي لا هدف لها سوى التغطية على المجرمين الحقيقيين الذين حنثوا بالعهود ونكثوا بالوعود وداسوا بالمجنزرات على المعاهدات والوثائق التي وقعوها بأيديهم وحولوا الجنوب بدولته وتاريخه وثروته وأهله وهويته إلى مجرد ملحق بهم على إنهم هم الأصل وهو الفرع، لكننا نقول إن هذه الحملات لا تعبر إلا عن أحد أمرين: إما عن عمى في البصر والبصيرة للقائمين عليها أو المساهمين فيها، وإما الاستمرار في تبرئة الجلاد وجلد الضحية، ومن هنا يأتي تصوير الثلاثين من نوفمبر التاريخ الأبرز والأكثر إشراقا في تاريخ جنوبنا الحبيب على إنه “يوم النكبة” أو “يوم إشهار الاحتلال اليمني” للجنوب، كما يقولون في استهانة فجة بعقول الأحياء من المناضلين وبكل الشعب الجنوبي، وازدراء قبيح لأرواح الشهداء الذين لم يبخلوا بتضحياتهم السخية من أجل حرية الجنوب واستقلاله وسيادته.

فتح نيران العداء مع واحدة من أزهى فترات التاريخ الجنوبي وأكثرها إشراقاً ومحاولة شطبها من الذاكرة الجنوبية، وهي محاولة بائسة بكل المعاني، كل هذا لا يعبر عن عدم الرغبة في التقييم الأمين للتاريخ الجنوبي، والبحث الرصين في عوامل النجاح ومسببات الإخفاقات، وهو عمل يزرع بذور فتنة لن يجني أصحابها من ورائها إلا الخيبة والفشل، ولن تعود على شعبنا إلا بالتتويه وتفكيك الصفوف وخدمة المتربصين بثورتنا الثانية وما أكثرهم.

ومع ذلك سيظل يوم الثلاثين من نوفمبر خالدا في الذكرى والذاكرة الجنوبيتين، مهما احتفى العتاة بعتوهم والمفلسون بإفلاسهم والمنكسرون بانكساراتهم.

المجد للثلاثين من نوفمبر.

والخلود لشهداء الثورة والاستقلال المجيدين.