هيثم المناع يكتب:
راهنية ومركزية وعالمية القضية الفلسطينية
منذ نشأته، حمل المشروع الصهيوني في فلسطين جينات مقتله، كان المؤسسون يعتقدون بإمكانية أقلمة فكرة الشعب والسيادة مع الانحدار من دين محدد، ونسخ البناء التاريخ الأوروبي للدولة-الأمة عبر الانتساب الجماعي لليهودية.
يمكن أن نتحدث عن المؤسسين بما نشاء، إلا أنه من الصعب ربطهم بالتدين أو الدين بل حتى الثقافة الدينية التاريخية. في حين أن مجموع ميكانزمات بناء الأسطورة والشعب والدولة، يقوم على تأسيس دولة صهيونية في فلسطين شرطها الأول أن تكون جنسيتها وجنسية سكانها يهودية، الأمر الذي يستلزم بالضرورة، اثننة الدين l’ethnisation de la religion، ما يسميه المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي ثم اختراع أرض إسرائيل[1]. لم يكن هناك أي دور للحاخامات أو الفتاوى أو “العهد القديم” في عملية البناء هذه، بقدر ما جرى تقمص أفكار متأثرة بالقومية الاشتراكية الأوربية، وبشكل خاص النازية. لذا لا نستغرب أن يصل شلومو ساند إلى جملته التراجيدية عندما يقول: “أنا أتقدم في السن ولا أريد أن تكون الكلمة الأخيرة لأدولف هتلر[2].“.
مما لا شك فيه، أن هناك خصوصية صارخة في مشروع بناء وطن قومي لليهود. إلا أن هذه الخصوصية والفرادة، لا تحقق فقط قطيعة مع المشتركات العالمية التي ولدت بعد حربين كونيتين ذهب ضحيتهما عشرات ملايين القتلى، وإنما، كنتيجة منطقية لذلك، صيرورة الحقوق الفلسطينية، قضية عالمية universal.
يتذكر جيلنا جيدا، آخر زفرات رئيس تحرير “الأزمنة الحديثة”، والجهود الجبارة التي بذلها كلود لانزمان، من أجل إثبات فرادة المجازر التي تعرض لها اليهود في أوربة. ورفض مقارنتها بأية إبادة جماعية في التاريخ والحاضر. وصولا إلى إطلاق تسمية “شوا” Shoah بدل الهولوكوست. تسمية لن ينازعه أحد عليها. ولكن هذه المحاولة التي أخذت 12 عاما من عمر لانزمان، لم تمنع أحد أبناء المخيمات الفلسطينية، وأكثر البحاثة الفلسطينيين نباهة، أن يرد عليه ببساطة المتمرد على دور الضحية، الدكتور محمد حافظ يعقوب: “الذين يتحدثون عن فرادة المحرقة محقون من غير شك، ولكن ليس بالمعنى الذي قد يبادر إلى ذهن بعضهم في الوهلة الأولى. فلا قداسة لمذبحة دون غيرها، ولا علو لمذبحة على غيرها من المذابح. فالقتل هو القتل، والجثة هي الجثة والمسؤولية هي المسؤولية. وكل موت نبيل (…) إن السمة الوحيدة التي تتشارك فيها هذه المآسي جميعها، وهي سمة مركزية وأساسية، هي أن منظمي كل واحدة منها يريدون، جميعهم من غير استثناء، الاستئار بالبلاد، ويرفضون التشارك فيها مع “الأغيار”[3]. لذا لم يكن مستغربا عند حلقة صداقتنا، أن يقوم لاتزمان نفسه، بإعداد فيلم وثائقي طويل عن “فرادة” Tsahal تساهل، أو الجيش الإسرائيلي بعد عقد من الزمن.
من المثير للسخرية اليوم، حتى عند المؤرخين الصهاينة الجدد، الحديث في أسطورة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. عندما كنت في الثامنة من العمر، كنت أجمع الطوابع، وكان لدي في الألبوم صفحة من طوابع “فلسطين”. فمنذ ولادة عصبة الأمم، تمتعت فلسطين بمقومات الشخصية الدولية، لأنها كانت خلال مرحلة “عصبة الأمم” الممثلة الشرعية الدولية في فترة ما بين الحربين العالميــتين الأولى والثانية تحت الانتــداب فئة (أ)، مثلها في ذلك مثل كل من العراق وسوريا ولبنان والأردن. والتكييف القانوني لهذه الطائــفة من طوائف الانتداب الثلاث التي أنشـأها عهد عصبــة الأمم، أي الأقاليـم التي تخضع للانتداب فئة (أ)، أنهــا بلغت تطورها السياسي المؤهل لها الاستقــلال الكامل، لكنها لا تباشــر اختصاص الدولة بذاتها بل تنــوب عنها في ذلك الدولة المنتدبة وهي إنجلترا في حالة فلسطين. لذا ومن قبل وعد بلفور، احتاج المشروع الصهيوني إلى جانب اختراع الأرض والشعب وإحياء لغة مشتركة، إلى عنصر ثالث لا يمكن أن تستوي له الأمور بدونه، هو “العدو المشترك“. وكون هذا العدو يشكل في عقلية المؤسسين، العقبة الأولى والأخيرة، لذا فإزاحته عن المشهد، قتله، ترحيله، ترانسفيره إلخ، كان باستمرار هاجسا معلنا أو مبطنا في المشروع الصهيوني. في مقابلة مع مجلة نوفيل اوبسرفاتور الفرنسية[4]، يقول المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، بأن واحدا من أكثر قرارات الدولة الوليدة فظاعة، لم يكن الطرد، بل ما حدث بعد ذلك من منع الفلسطينيين من العودة. فقد قررت الحكومة الإسرائيلية بعد شهر من إعلان تأسيس الدولة (15 حزيران/يونيو 1948)، أي قبل حوالي ثلاثة أسابيع من احتلال اللد والرملة وطرد سكانهما، منع الفلسطينيين من العودة، هذا القرار الذي حوله الكنيست إلى قانون.
“في إسرائيل، كما يؤكد المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند، “لا يوجد تقريبًا تقاليد عالمية. أولئك الذين اشتكوا ذهبوا. يجب تحليل الوضع الحالي من الاستعمار الصهيوني الذي بدأ في القرن التاسع عشر. الاستعمار لم يتوقف. حتى بين عامي 1949 و 1967. كان استعمارًا داخليًا. اليمين واليسار، باستثناء الشيوعيين، قبلوا شعار “تهويد الجليل”. لهذا السبب لا يتخذ أي سياسي إسرائيلي خطوات جادة للتسوية مع الفلسطينيين (…) الأسطورة الساخنة في إسرائيل تظهر أن الخليل والقدس وأريحا هي الوطن الحقيقي لليهود. كل طالب في إسرائيل، من سن 7 إلى 18 عامًا (هناك موضوع واحد في البكالوريا)، يتعلم الكتاب المقدس كما يتعلم المرء كتابًا في التاريخ. لإنشاء ارتباط بأرض الماضي الأسطورية. لا أحد يستطيع أن يحرر نفسه منه“[5].
إسرائيل اليوم، هي الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، الجيش الإسرائيلي هو الأكثر تسليحا والأقوى عتادا في المنطقة، تستغل المنظومة-العالمية كل ما سواها مع استثناء واحد، إسرائيل تستغلها بل وتبتزها، كل الدول “الدينية” في العالم تعد أقرب إلى/أو داخل ما يسمى “معسكر الشر” باستثناء إسرائيل… كيف والحال كذلك، يمكن تجنب المواجهة بين القيم العالمية المعلنة والخصوصية والفرادة الإسرائيلية؟
قبل تناول الإشكالية المركزية برأينا، أي المواجهة الوجودية المفتوحة بين الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ودولة إسرائيل، سنبدأ من شلومو ساند الذي يطرح السؤال حول ما يسميه الغرب الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط: “دولة إسرائيل: لا يمكن أن تكون ديمقراطية ويهودية في نفس الوقت. هذه سفسطة. قبل أن تكون تعددية وليبرالية، فإن مبدأ الديمقراطية هو شخص واحد، صوت واحد. الدولة ملك للشعب، لجميع المواطنين معًا. دولة إسرائيل، بحكم تعريفها، ليست ديمقراطية إذا عرفت نفسها على أنها يهودية لأن أولئك الذين تعتبرهم وزارة الداخلية كيهود يمثلون 75٪ فقط من السكان[6]“. ثم يضيف: “مكتوب على بطاقة هويتي “الجنسية يهودي”. وليس: الدين يهودي، الجنسية يهودي. الدولة ، إذا تم تعريفها على أنها يهودية، ليست دولة 25 بالمئة من مواطنيها غير اليهود. في حين هي دولة Finkielkraut أو Bernard-Henri Lévy أو Madoff أو Woody Allen – حتى لو لم يرغبوا في ذلك”.
هذه الإسرائيل، تحتل منذ 1967 الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان، ويمكن التوثيق لمتابعة السياسة الرسمية الإسرائيلية لهدم القرى والمدن السورية المحتلة بعد وقف إطلاق النار ونزوح عشرات آلاف السوريين.. كذلك التصفية المادية للشعب الفلسطيني داخل وخارج ما يسمى الخط الأخضر: مسح أو تهجير سكان القرى الفلسطينية قسريا، تهويد القدس، نسف المنازل، تهجير السكان، الاستيلاء على الأرض والمياه، تغيير أسماء المواقع، زرع كتل بشرية يهودية هائلة في المستوطنات… نحن أمام جرائم حرب موصوفة وجرائم ضد الإنسانية، فهل يمكن لمدافع عن حقوق الإنسان والشعوب أن يغلق العين عن موضوعات مثل التهجير القسري للسكان، حق العودة، الاستيطان في أراض محتلة، هدم المنازل وضم الأراضي بالقوة، أن يغلق العين عن القرارات والمواثيق الدولية المتعلقة بالفصل العنصري (الأبارتايد)، القانون الدولي الإنساني والمستعمرات، العقوبات الجماعية بحق مجموعة بشرية محددة، شرعنة الاعتقال والأسر بأحكام استثنائية، نهب الأرض والمياه، بناء جدار فصل عنصري بين السكان، بناء طرق للمستوطنين وهدم طرق للسكان المحليين… وأن يختزل حقوق إنسانه في اعتقال معارض سياسي في روسيا الاتحادية أو هونغ كونغ؟
لقد طرحت السؤال عند مطالبتي بطرد منظمة “أكري” الإسرائيلية من الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، قبل 24 عاما، لأن رئيسها أصدر أحكاما تعسفية بحق أطفال الانتفاضة الأولى. اقترب مني محام كبير في فرنسا قائلا: “هيثم أنت مشروع كامل الأوصاف لنيل جائزة نوبل، نضالك ضد الدكتاتوريات وفي مواجهة دكتاتورية بلدك محل احترام العالم، موقفك المناهض للعنف في منطقة تمارس الانتاج الواسع للعنف شرف لنا ولك، لماذا تضع نفسك في مواجهة مباشرة مع اللوبي الأقوى في أوساط حقوق الإنسان؟”
قلت له جملة ياسر عرفات يوما بالإنجليزية: My Dignity.
إن كانت مهمة المثقف والحقوقي كما طالبنا دائما، أن يفضح مختلف أشكال الاستعمار، وأن يناهض كل من يتحدث عن حرب “مقدسة” أو شعب متفوق، وأن يناضل ضد كل أشكال القتل الفيزيائي والمعنوي للبشر والانتهاكات المتزايدة للحقوق الإنسانية والكرامة الإنسانية، هل يمكن أن يقف على الحياد، أو يختار الصمت، حول كل ما يجري في هذه الأرض المقدسة ثلاث مرات؟
يخوض المدافعون عن حقوق الإنسان في أوربة اليوم، معركة ضارية في مواجهة يمين عنصري يرفض التفريق بين الإسلام والإيديولوجيات الإسلامية، التفريق بين المسلم بالولادة، والإسلامي المطالب بدولة إسلامية.. هل يمكن لمدافع عن دولة يهودية أن يكون جزءا من هذه المعركة ؟
منذ ولادة المحكمة الجنائية ليوغسلافيا السابقة، خضنا في معركة قيام محكمة جنائية دولية باعتبار “مستقبل حقوق الإنسان”، كما أوضحت في كتاب جماعي بهذا العنوان، هو في الانتقال من مجرد التوثيق والشجب إلى المحاسبة. كانت الإدارات الإسرائيلية المتعاقبة عدونا الأكبر في كل المعارك وعلى كل الجبهات… وبعد التقدم الذي حصل في تشريعات أوربية على صعيد الولاية أو الاختصاص الجنائي العالمي universal Jurisdiction كان التدخل الإسرائيلي سببا في فرملة هذا التقدم، في بلجيكا بعد ملاحقة آرييل شارون، وفي النرويج بعد ملاحقة المسؤولين عن العدوان على غزة. هل كان يخطر على بال ثلاثة أسماء كبيرة في القرن العشرين، متحدرة من عائلات يهودية، تجمعهم الثقافة والجنسية الألمانية وذاكرة “الهولوكوست”. ومواقف، أقل ما يقال فيها أنها ليست معادية لدولة إسرائيل: حنا أرندت (1906-1975)، كارل جاسبرز (1883-1969) وماكس هوركهايمر (1895-1973). عندما طالبوا بضرورة إدماج الجرائم ضد الإنسانية في التشريعات الوطنية وقيام محكمة جنائية دولية، أن “الدولة اليهودية” ستكون أشد الأعداء لكل البناء الفكري- القانوني الذي يدافعون عنه؟ [7]
في كل المعارك الكبرى التي خضناها طيلة أربعين عاما من أجل الحقوق الإنسانية، كان الوحش الإسرائيلي جاثما في وجهنا مخافة تسجيل مكسب، أو سابقة، يمكن للفلسطيني أن يطالب بها. حتى اتفاقية مناهضة التعذيب، الوحيدة التي ولدت في رحم المجتمع المدني العالمي ولم يكتب خبراء الدول مسودتها، كان الإسرائيلي يعطي الأمثلة على حالات الضرورة القصوى للتعذيب، وكان الإسرائيلي الوحيد، الذي وظّف طواقم طبية للالتفاف عليها[8].
في 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2021 ، أصدرت الحكومة الإسرائيلية قرارا بتصنيف ست مؤسسات حقوق إنسان ومجتمع مدني فلسطينية على أنها “منظمات إرهابية” بموجب “قانون مكافحة الإرهاب” الإسرائيلي لعام 2016 و”منظمات محظورة” بموجب أنظمة الدفاع (حالة الطوارئ) لعام 1945. (مؤسسة الحق ومؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان والحركة العالمية للدفاع عن الأطفال – فلسطين واتحاد لجان المرأة العربية ومركز بيسان للبحوث والإنماء واتحاد لجان العمل الزراعي). ورغم حركة الاحتجاج الدولية على هذا القرار، تحتفل البشرية اليوم باليوم العالمي لحقوق الإنسان، وما زال هذا القرار ساريا.
كيف يمكن للمجتمع الحقوقي، بل والبشري، هضم قرار من هذا النوع، بحق منظمات غير حكومية تدافع عن الحقوق الخمسة الأساسية، سياسية ومدنية واجتماعية واقتصادية وثقافية؟ بل كيف يمكن أن يقبل فكرة أن المخابرات الإسرائيلية احتاجت إلى أربعين عاما لاكتشاف أن أول منظمة حقوقية عربية، كانت قدوة جيلنا في بناء منظمات حقوقية جديرة بالتسمية، قدمت للمفوضية السامية لحقوق الإنسان خيرة كوادرها، وانتخبت كبريات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان أكثر من قيادي فيها، تصنف بالإرهابية؟
كنت أرغب في أن أعرض لكم تاريخ هذه المنظمات النضالي، واختصارا للوقت أكتفي بوقائع كانت مركزية في ثقافتي ونضالي في عالم حقوق الإنسان.
في 1978، عام وصولي إلى باريس، شكلتُ “جمعية الدفاع عن المعتقلين السياسيين في الشرق الأوسط”، كانت حقوق الإنسان بالنسبة لجيلنا أقرب إلى قراءة منظمة العفو الدولية. في هذا الوقت شرقي المتوسط، قامت مجموعة من الحقوقيين والمحامين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة بتشكيل “القانون من أجل الإنسان“، منظمة غير حكومية تهدف إلى بلورة وتطوير مبدأ سيادة القانون والدفاع عن الحقوق الأساسية للإنسان وتقديم المساعدات القانونية، وقد انتسبت المنظمة التي تعرف اليوم باسم “الحق” للجنة الحقوقيين الدولية ICJ وأصدرت، في 1980، دراسة قانونية في غاية الأهمية حول الضفة الغربية ودولة القانون[9] تتناول قراءة في النظام القضائي الأردني ثم الإسرائيلي في ظل الإحتلال ومن ثم قراءة قانونية في الإنتهاكات الجسيمة بحق الشعب الفلسطيني في القوانين والقرارات العسكرية ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والعقوبات الجماعية بحق الفلسطينيين واغتصاب الأرض والمياه والاعتداء على الحريات الأكاديمية والتعليمية إلخ. وقد كانت هذه الدراسة بداية لنشاط واسع امتد لقطاع غزة وبلدان اللجوء الفلسطيني في عملية رصد وتوثيق للجرائم الإسرائيلية والمساعدة القضائية للضحايا عبر نخبة من المحامين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي 1985، تأسس “مركز غزة للحقوق والقانون” لنفس الغرض ولتغطية الانتهاكات في قطاع غزة. وبعد ذلك ازداد الإهتمام بمنظمات حقوق الإنسان ومراكز المساعدة القانونية لتتجاوز الخمسين مركزا وجمعية.
أربعة عقود زمنية مرت، شقت فيها الحركة الفلسطينية لحقوق الإنسان واحدة من أصعب تجارب الحركات الحقوقية في العالم، ووثقت، بحرفية صارت لنا مدرسة، لأهم الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني. وقد مارست سلطات الإحتلال كل وسائل الضغط والمضايقة الممكنة بحق المنظمات الحقوقية الأمر الذي لم يحل دون اشتداد عودها وتعميق خبرتها. كذلك خارج فلسطين وقفت مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل في وجه الفضاء الفلسطيني الحقوقي وسعت لمحاصرته بكل الوسائل. الأمر الذي لم يمنع المناضلات والمناضلين الفلسطينيين من إدخال تقليد التوثيق والرصد للجرائم الجسيمة الإسرائيلية في صلب عملهم ومباشرة الدعاوى القضائية أمام محاكم الإحتلال وخارج فلسطين بالإستناد إلى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. ويمكن القول، أن أهم تقارير لجنة حقوق الإنسان ومن بعدها مجلس حقوق الإنسان استندت في عملها على هذا الجهد التوثيقي لمنظمات لحقوق الإنسان تعمل في قطاع غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية في ظروف وصفها تقرير غولدستون بالصعبة جدا وخصها بتوصية متميزة[10].
هل يمكن لمناضل حقوقي في العالم اليوم، أن يكتفي ببيان براءة ذمة، يعلن فيه عن تضامنه مع المدافعين عن الحقوق الإنسانية في فلسطين؟ هل تختصر مهمة المنظمات الدولية ببيان تنديد لا يختلف كثيرا عن ذاك الموقع من مئة من مشاهير ونجوم هوليود؟
بعد أن قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي ببناء آخر نظام أبارتايد على سطح البسيطة، لم يعد أمامها سوى أن تصنف محامي الدفاع عن الحقوق الفلسطينية الأساسية إرهابيا…
لم يعد بإمكان المدافعين عن حقوق الإنسان إبعاد البوصلة عن القضية الفلسطينية في أجندتهم، وأصبح من الضروري تجاوز الصيغ التقليدية والشمالية لمنظمات حقوق الإنسان، وذلك عبر الربط بين حقوق الإنسان وحقوق الشعب الفلسطيني، وبين ما تم إقراره من مواثيق وما هو ضروري للحؤول دون توظيف لهذه الحقوق سلعة من سلع حقبتنا.. من هنا، ومنذ نهاية عدوان الرصاص المسكوب، عبرّنا عن ضرورة التشبيك وتعدد أشكال ووسائل وتعبيرات النضال من أجل محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين، لأن غياب المحاسبة تأصيل وقبول معمم، للجرائم الجسيمة ضد الإنسان.
نحن اليوم، بأمس الحاجة لبناء استراتيجيات عمل دينامية قادرة على مواجهة حيتان السلطتين السياسية والاقتصادية في العالم المتمترسين في جبهة المعتدي الإسرائيلي. ومهما كانت موازين القوى قاسية، من واجبنا باستمرار استحضار عبارة صموئيل بيكيت: “في هذا المكان، وفي هذه اللحظة، الإنسانية هي نحن، سواء أعجبنا أم لم يعجبنا ذلك؟”.