بل أن بكين، في نفس يوم ذلك المؤتمر نفت تقريرا نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" عن دفعها نحو لقاء عالي المستوى لتخفيف التوترات مع الولايات المتحدة.
وقالت السفارة الصينية بواشنطن وقتها: "لم يكتب الجانب الصيني أيا من الرسائل المذكورة في تقرير وول ستريت جورنال" و"العلاقة المنطقية بين الصين وأميركا تخدم المصالح الأساسية للشعبين، وترتقي للتطلعات العامة للمجتمع الدولي، والصين تتمنى أن يعمل الجانب الأميركي مع نظيره الصيني لإيجاد حل وسط، وإعلاء روح اللا صراع، واللا مواجهة، والاحترام المتبادل والتعاون الذي يحقق المكاسب للطرفين، والتركيز على التعاون، ومعالجة الاختلافات وتحقيق النماء المنطقي والمستقر في علاقاتهما الثنائية".
وبعد ذلك جاء المؤتمر الأول للرئيس الأميركي المنتخب، الذي كرّر القول إنّه ينوي على غرار سلفه دونالد ترامب، مواجهة الصين، ولكن بطريقة مختلفة تماما عن التي اعتمدها الملياردير الجمهوري والتي اتّسمت بمواجهة مباشرة بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.
الآن يمكن القول أن الربع الأخير من هذا العام حمل الصور الأوضح لما يمكن أن نطلق عليه (الحرب الباردة المرتقبة بين بايدن والصين)، ففي مطلع شهر سبتمبر أعلنت واشنطن تشكيل تحالف أمني استراتيجي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، يضمّ كلا من الولايات المتّحدة وبريطانيا وأستراليا.
وقد لوحظ أيضا أنه لم يأت أيّ من القادة الثلاثة على ذكر الصين في مؤتمرهم الصحفي ولا فعل كذلك بيانهم المشترك الذي اكتفى بالإشارة إلى "السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ"، لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك التحالف يهدف قبل كلّ شيء إلى مواجهة الطموحات الإقليمية لبكين.
أيام فقط بعد إنشاء تحالف "أوكوس"، الذي أثار حنق الحلفاء الأوروبيين وسقطت معه آخر أوراق الثقة المطلقة في الحماية الأميركية، ضجت وسائل الإعلام العالمية بخبر تحالف تقوده الولايات المتحدة أيضاً، إذ عكف الرئيس جو بايدن على تعزيز الوجود الأميركي في جنوب شرق آسيا، من خلال توثيق الصلات بكل من الهند واليابان وأستراليا، في تكتل يبدو ظاهره مختلفاً تماماً عمّا يكنّه من أسرار، فقد أسس قبل أكثر من عقد ونصف من الزمن وعلى الرغم من أن الخطوط العريضة المعلن عنها لهذا التحالف الجديد، تتمحور حول تعزيز الروابط والتعاون في مجالات مختلفة تشمل سبل مواجهة جائحة كورونا وإيجاد حلول فاعلة لقضية التغير المناخي.
ويبدو أن النوايا الحقيقية تشير إلى أن واشنطن تهدف من خلال هذا الحلف الجديد إلى إحكام الخناق على النفوذ الصيني المتنامي ومحاولة تحجيم بكين.
وبمعنى آخر فإن هناك مراقبين كثر يشيرون إلى أن أعضاء كتلة "آسيان"، التي تضم نحو 10 دول من منطقة جنوب شرق آسيا، قلقون من احتمالية تغير مسار حلف "كواد" إلى اتجاهات أخرى، خاصة أن الحملة التي تقودها أميركا ضد الصين يمكن أن تُدخل المنطقة في حالة من عدم الاستقرار، وانتشار حالات الاصطفاف التي يمكن أن تقود إلى تصعيد عسكري سيضر بالمنطقة والعالم.
هنا في واشنطن ألاحظ أن التشدد تجاه العلاقات مع الصين يعد إحدى القضايا النادرة التي يتفق عليها سياسيو الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة.
ويمكننا القول بوضوح إنه "لم يختلف الرئيس الديمقراطي جو بايدن عن نهج سلفه الجمهوري دونالد ترامب في هذا الإطار".
وعلى الرغم من ارتفاع درجة الاستقطاب في النظام السياسي الأميركي حاليا وبصورة غير مسبوقة، إلا أن هناك نوعاً من الإجماع حول ضرورة مواجهة سياسات الصين بين الديمقراطيين والجمهوريين، وأعتقد أنه قد تكون هناك بعض الاختلافات الصغيرة نسبياً بين الاثنين، لكن ليس بدرجة كبيرة كما قد يعتقد البعض، من حيث أن بايدن قد يحاول المزيد من التواصل مع الصين حول بعض القضايا الحرجة مثل تغير المناخ، ولكن من المرجح أن يحافظ على نهج قوى إلى حد ما تجاه الصين، مثل ترامب، بشأن قضايا التكنولوجيا، والقضايا التجارية، والقضايا الأمنية.
في خلاصة الأمر يمكن القول إن بارانويا الصين وعلى مدى عام كامل واجهها الرئيس بايدن انطلاقا من ملامح يمكننا استكشاف بعض دواخلها في النقاط التالية:
أولا: السعي في وضع خطط تخدم مصالح واشنطن في الأقاليم المجاورة للصين من خلال حشد الحلفاء الإقليميين ومساعدتهم على تحقيق مصالحهم المشتركة مع واشنطن في مواجهة تطلعات الصين.
وقد يكون الهدف من ذلك هو الحفاظ على "التفوق الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي في المنطقة مع منع الصين من إنشاء مناطق نفوذ جديدة غير ليبرالية".
وبمعنى أوضح يبدو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن سلك نهجاً متشدداً يتشابه في طبيعته مع توجهات الإدارة السابقة بقيادة ترامب، ومع ذلك فهو يحاول اتباع طرق مختلفة في التعامل مع الصين؛ حيث يدرك الأميركيون صعوبة التعاطي العسكري المباشر مع القوة العظمى الأخرى، وبالتالي فإن استعادة استراتيجية التحالفات العسكرية والاقتصادية هي السبيل الأمثل وفقاً للمعطيات الجيوسياسية الحالية، إلى جانب دفع الشركاء التقليديين على اتخاذ مواقف أكثر وضوحاً ضد الصين.
ثانيا: إطلاق إشارات متناقضة حول بدء حرب باردة بين بيكين وواشنطن من عدمها في وقت يمثلان فيه أكبر اقتصادين في العالم، مع تزايد عمق التنافس والصدام على أسس أيديولوجية وعسكرية وتكنولوجية.
لكن الحقيقة في رأيي أننا بصدد حرب باردة جديدة، لكنها ليست كالحرب الباردة السوفيتية الأميركية لأن اقتصاد الدولتين مترابط بصورة شديدة التعقيد.
الصين ليست الاتحاد السوفيتي المنغلق، ولا يمكن اتباع أميركا والغرب سياسة احتواء الصين بالتضييق عليها، ذلك أن حجم التجارة بين الدولتين وصل إلى ما يقرب من 560 مليار دولار عام 2020.
ثالثا: يبدو عام 2022 عام محاولة أخذ المسكنات لمواجهة بارانويا الصين. فلا جدال في أن إدارة منافسة استراتيجية بين الولايات المتحدة كقوة عظمى أنهكتها الحروب، والصين كقوة تلهث على طريق الصعود نحو القمة، تتطلب أولاً إعادة ترتيب أولويات المنافسة التي لا يمكن إلا أن يتأثر بها العالم من أقصاه إلى أقصاه