د. علي محمد فخرو يكتب:
أي مجتمعات بلا أيديولوجيات؟
عبر نحو قرن من تاريخ العرب الحديث والمحاولات تتواصل بشأن تكوين ونشر الأيديولوجية المهيمنة فى مختلف أجزاء الوطن العربى. ولا تزال المحاولات جارية حتى ولو قدمت تحت مسميات أخرى من مثل المشاريع والاستراتيجيات وغيرها. ولن توقف المحاولات بعض الأصوات النشاز التى تغمز وتلمز حاملى الأيديولوجيات التغييرية بينما تتبنى هى كل مقولات أيديولوجية الأقلية من قوى السيطرة والاستئثار والامتيازات المادية والمعنوية غير المستحقة.
دعنا أولا نتفق على أن التعريف العام لتعبير الأيديولوجية يصفها بأنها العدسة التى من خلالها يرى الإنسان العالم، وأن علم الاجتماع يعرفها بأنها مجموع القيم والمعتقدات والمسلمات والآمال التى يحملها الفرد.
من هنا فان الإيديولوجية تلعب دورا بارزا فى تنظيم وإدارة العلاقات الاجتماعية المتوازنة، ونوع النظام الاقتصادى الإنتاجى، وتركيبة الحياة السياسية.
هذا التعريف الشامل، المتشابك فى مكوناته والجهات التى يتعامل معها، هو الذى أدى إلى تنوع الأيديولوجيات الكبرى التى عرفها العالم عبر أكثر من قرنين، من مثل الأيديولوجية الماركسية التى تنطلق من نقد ومواجهة ما تعتبره النظام الاقتصادى الإنتاجى الجائر الظالم للطبقة العاملة المنتجة، ومن مثل الأيديولوجية الليبرالية الرأسمالية التى تنطلق من حرية التملك وحرية السوق واستقلال الفرد والسوق إلى أبعد الحدود عن تدخلات سلطات الدولة، ومن مثل الأيديولوجية التى نادى بها وطورها الثورى الإيطالى أنطونيو غرامشى التى تنطلق من أن المشكلة هى فى الدرجة الأولى فى وجود ثقافة مجتمعية مهيمنة على وعى المواطنين لتحافظ على الأوضاع الجائرة كما هى، أيديولوجية التسكين والتخدير وقبول الأمر الواقع ورفض التغيير الجذرى التى تنشرها سلطات الدولة من خلال الاستعمال الانتهازى للدين، ومن خلال النظام التعليمى، ومن خلال الإعلام والفنون وغيرها، ومن مثل الأيديولوجية القومية التى قد تنطلق من الاعتقاد بالتميز العرقى لهذه الأمة أو تلك، وأخيرا من مثل الأيديولوجية السياسية الدينية التى تنطلق من تعاليم وقيم وتشريعات دين معين.
وبالطبع فقد تأثرت كل أنواع الأيديولوجيات فى بلاد العرب بكل تلك الأيديولوجيات؛ أخذا أعمى، ورفضا أعمى، وتعديلا، وتشويها، أو خلطا متناقضا.
نورد تلك الخلفية التاريخية كرد على محاولات مستمرة لإبعاد شابات وشباب الأمة العربية عن أية صورة من صور التفكير الأيديولوجى، أى النشاط الفكرى الإنسانى القيمى الأخلاقى المنفتح الشامل الذى يحكم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليجعلها حياة عدل وتضامن وتراحم وسلام.
أن يطالب البعض بمراجعة الأيديولوجيات وتفعيلاتها فى الواقع فهذا حق، وأن ينادوا برفض الانغلاق والتزمت الأيديولوجى وبضرورة تعايشها السلمى التحاورى فهذا مقبول، وأن يحذروا الشباب من الوقوع فى فخ أيديولوجيات الأمر الواقع التى تمارسها هذه الجهة أو تلك لإبقاء هيمنة وامتيازات هذه الأقلية أو تلك فنعم التحذير هذا.
أما أن يطالبوا بزوال مبدأ ضرورة وجود مختلف الأيديولوجيات الشاملة فى المجتمعات العربية، والاكتفاء بالتعامل مع مشاكل المجتمعات بصورة تجزيئية غير مترابطة، فهذا مرفوض لأنه بداية إماتة السياسة والتزاماتها وممارستها فى حياة شابات وشباب الأمة.
لنتذكر أن أصل كلمة الأيديولوجية اللغوية انبثقت من كلمة الأفكار (IDEAS)، فى وجه الأفعال التى لا تنطلق من ولا تعتمد على ممارسة الفكر من قبل عقل يولده ويطوره ويجدده باستمرار.
من الضرورى أن يعرف شباب وشابات الأمة بأن هناك محاولات عربية واعدة بتكوين أيديولوجيات تأخذ بعين الاعتبار تاريخ وثقافة وقيم وحاضر ومستقبل وطموحات هذه الأمة. النصيحة لهم: تابعوا هذه المحاولات وانغمسوا فيها نقاشا وتبنيا ورفضا، ولكن إياكم أن تستمعوا لمن يريدونكم كمتفرجين بلهاء على حافة طرق الحياة.
- مفكر عربى من البحرين
علي محمد فخرو شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.