د. علي محمد فخرو يكتب:
عن الفساد الإعلامي
من المواضيع التي تتحدث عنها كثيراً وسائل الإعلام المقروءة والسمعية والبصرية هي مواضيع الفساد السياسي والاقتصادي والمالي والقضائي والإداري والمجتمعي. لكن من الملاحظ أن تلك الوسائل بالكاد تأتي على ذكر الفساد الإعلامي، مع أن الآثار المترتبة على ممارسة مثل هذا الفساد كبيرة وخطِرة للغاية وتمس عقول ونفوس وضمائر وقيم وسلوكيات الملايين من البشر. ومع أن الكثير قد كُتب وسجل عن ظاهرة الفساد الإعلامي في الغرب، إلا أن الموضوع لم يعالج بنفس الجدية والعمق في بلاد العرب، خصوصاً بشأن ارتباطه بمصادر القوة والنفوذ في الأوساط السياسية والمالية العربية وخدمته لمن يملكونهما.
وبالطبع، فإنه من المفروض أن يكون الإعلام شريفاً وصادقاً وموضوعياً ومنحازاً للمصلحة العامة، وبالتالي في قلب مقاومة ومحاربة ظواهر الفساد. فإذا سمح لنفسه بالدخول في لعبة الفساد فما الذي يبقى للجمهور من مصادر المعرفة المنزهة والأخبار الصادقة ومراقبة أدوات السلطة، ونقدها وتوعيه الجماهير وتجييشها ضد الفساد والمفسدين؟
ثم إن وجود إعلام بتلك الصفات الذاتية الرفيعة وذلك الالتزام الأخلاقي يزداد ويصبح ذات أهمية وجودية في المجتمعات العربية التي تكثر فيها ظواهر الفساد في الكثير من مجالات الحياة المهمة المحورية من مثل الحكومات والبرلمانات والقضاء وحتى بعضاً من المؤسسات الدينية الرسمية.
وحتى عندما تحاول بعض وسائل الإعلام أن تلعب دوراً في فضح الفساد، فإن الفساد المستتر عند بعض النافذين فيها يتعامل مع التفاصيل بانتقائية شديدة تظهر فيها الانحيازات والتقييمات المصلحية الشخصية، وتقل فيها الجوانب العادلة القانونية والأخلاقية والالتزامات الوطنية والإنسانية.
وفي الآونة الأخيرة بدأ الفساد الإعلامي يتفنن في تلاعباته، فأصبح يتلاعب بالألفاظ العامة التي كانت منتشرة ليستبدلها بكلمات وتعابير جديدة لكي تبدو حداثية وأكثر انضباطاً، بينما هي في الحقيقة محاولات لإدخال الغموض والمماحكات في الفكر السياسي والاقتصادي النضالي المنحاز للمصلحة العامة وللجماهير المظلومة. فكلمة خالقي الثروة تحل محل الرأسمالية المستغلة، وسلطة الدولة توصف بالحكومة المنتفخة، وديمقراطية المستهلكين تأخذ مكان ديمقراطية الجماهير، والتفتيش عن عمل يأخذ مكان البطالة.. إنها تعابير مؤسسات وفكر النيولبرالية الرأسمالية العولمية الجشعة.
وفي حين أن التركيز في الغرب على الجوانب الاقتصادية، يجري التركيز في بلاد العرب على الجوانب السياسية، من محاولات تشويه ومحو ذاكرة الأمة، سواء بالنسبة لتاريخها أو بالنسبة لنضالاتها الحديثة. ومن تبديل للكلمات ذات الدلالات القومية التوحيدية، فيحل تعبير الشرق الأوسط محل الوطن العربي، ويحل الخلاف الفلسطيني - الإسرائيلي محل الصراع العربي الإسرائيلي، وتصبح شعارات متطلبات الأمن نافية أو مقللة من أهمية شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية، ويعلى من شأن الاقتراض العام على حساب الاستقلال الاقتصادي... إلخ ... من كلمات وتعابير تكّون قاموساً خاصاً بعالم الإفساد الفكري من قبل بعض دوائر الإعلام العربي.
ولذلك، فمثلما الحال مع الضوابط القانونية والأخلاقية والمهنية التي توضع لمنع أو ضبط الفساد في العمل العام والأنشطة الاقتصادية والمالية والتجارية، فإن هناك حاجة إلى وضع ضوابط ومحددات بالغة الوضوح والشدة لمنع الفساد في الإعلام يقنن تفاصيل ملكية وسائل الإعلام، ويمنع توجيهها لخدمة مصالح نفعية، ويؤكد وجود قيم وضوابط مهنية للعاملين في المهنة الإعلامية تمنع الرشوة من خلال الامتيازات والمكافآت والهدايا وتحاسب الخارجين على تلك القيم.
وبالطبع ليس المقصود من وضع تلك الضوابط أن تكون على حساب حرية واستقلالية وموضوعية ووطنية وإنسانية الإعلام. بل العكس هو الصحيح، فالمقصود هو حماية الإعلام من محاولات قوى متنفذة هائلة ترمي إلى استعماله كأداة إفساد يصب في خدمة مصالحها الفئوية الضيقة.
في الغرب هناك قصص مذهلة يندى لها الجبين عن كبار كتاب وصحفيين وعن مقدمي برامج تلفزيونية وإذاعية شهيرة دخلوا في عوالم الفساد الذممي الإعلامي. لتكن تلك القصص دروساً لنا في بلاد العرب.