ماريا معلوف تكتب:

كازاخستان ما بين الحروب الباردة وأهداف أميركا الاستراتيجية

يتساءل كثير من المراقبين عن سبب الاهتمام الأميركي بأحداث كازاخستان والتي تكتسب أهمية استثنائية من خلال موقعها الجغرافي المتميز بين روسيا والصين، وغناها بموارد الطاقة.

تعود علاقة أميركا التاريخية بكازاخستان إلى عام 1991 حين اعترفت باستقلالها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.

ومنذ ذلك الوقت سعت السياسة الخارجية لكازاخستان إلى تحقيق التوازن مع القوى العظمى، خاصة أنها تتقاسم حدودا طويلة مع روسيا من الشمال، والصين إلى الشرق.

لا شك أن العلاقات الأميركية - الكازاخستانية الحديثة تعد ناجحة، حيث عملت كازاخستان على التخلص من السلاح النووي، بعد أن كانت مركزا للتجارب النووية الرئيسية للاتحاد السوفياتي، إذ تم نقل آخر الأسلحة النووية إلى روسيا في عام 1995 بمساعدة أميركية.

كذلك تستضيف كازاخستان منذ عام 2003، مناورات عسكرية متعددة الأطراف تركز على تدعيم قدرات قوات حفظ السلام، وكان آخرها في يونيو 2019.

ومع تصنيف المنظمات الأميركية المعنية بالحريات وحقوق الإنسان كازاخستان كدولة غير حرة وغير ديمقراطية، إلا أنه تمت دعوتها للمشاركة في قمة الرئيس جو بايدن حول الديمقراطية التي انعقدت الشهر الماضي.

ومهما يكن من أمر فإن معظم المراقبين يرون أن كازاخستان هي أقرب إلى روسيا منها إلى أميركا، وهذا يؤدي بين فترة وأخرى إلى تعقيد العلاقات الأميركية - الكازاخستانية في مراحل معينة.

مطلع هذا الأسبوع أعلن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان أن مجلس "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" قرر إرسال قوات لحفظ السلام إلى كازاخستان (البلد العضو في المنظمة) على خلفية الاضطرابات الأمنية هناك، وذلك استجابة لمناشدة الرئيس قاسم توكاييف قادة الدول الأعضاء في المنظمة بقيادة روسيا، مساعدة بلاده في مواجهة أحداث العنف والاضطرابات الأخيرة حيث انقلبت الاوضاع في الجمهورية رأسا على عقب، بعد أن انطلقت احتجاجات شعبية يوم الأحد الثاني من يناير بمدينة جاناوزن غربي البلاد، إثر زيادة أسعار الغاز المسال، المستخدم كوقود للسيارت، وانتقلت إلى العاصمة الاقتصادية ألماتي بعد يومين، ثم بعدها بساعات اقتحم المحتجون مبنى إدارة المدينة، وجردوا عناصر الأمن من أسلحتهم وانهالوا عليهم بالضرب، وقتلوا 18 عنصرا، وسيطروا على مطار أكبر مدينة في البلاد.

إذا أغفلنا الناحية الإنسانية، يمكننا القول من ناحية "جيوستراتيجية"، إن تطور الاحتجاجات، على رفع أسعار الغاز، وعلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة، بهذه السرعة، وكذلك عمليات السطو واسعة النطاق على المتاجر، والاعتداء على أقسام الشرطة والمنشآت الحكومية، التي تعرضت للنهب والحرق تثير العديد من الأسئلة، حول مجمل ما حدث، لاسيما أن السلطات الكازاخية، ألغت على الفور قرار رفع أسعار الغاز المسال، واعتقلت المسؤولين عن القرار، واتهمتهم بأنهم اتخذوا القرار دون تنسيق معها، في محاولة لتهدئة الأوضاع.

كذلك من عدم الإنصاف، تحميل عناصر أجنبية، مسؤولية كل ما جرى في كازاخستان، وتجاهل معاناة المواطنين بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية، والتي قد تدفعهم إلى النزول للشوارع والاحتجاج، كما يحصل في أي بلد في العالم، حتى في بلدان ذات اقتصاديات قوية، ولكن من السذاجة أيضا، تجاهل وجود هذه العناصر، على ضوء ما جرى من أعمال شغب وعنف وفوضى ونهب وسلب وحرق، كان الهدف منها دفع البلاد نحو المجهول والاقتتال الداخلي، وهو هدف بعيد كل البعد عن أهداف المحتجين الحقيقيين.

ومثّل دخول القوات الروسية من أجل إعادة الاستقرار إلى البلد، بعد طلب الرئيس توكاييف دعما من منظمة معاهدة الأمن الجماعي -تحالف دولي يضم عددا من دول الاتحاد السوفييتي السابق- نقل الوقائع من دائرة شعب غاضب إلى دائرة الشكوك بوجود مخططات جيوسياسية استخباراتية بفعل قوى أجنبية غربية ذات نفوذ إقليمي تهدف إلى خلق أزمة ومناطق نزاع متقاربة، وبالأخص قرب الحدود الروسية والصينية.

كما يتهم كثير من المراقبين لتطورت الأحداث في كازاخستان، أميركا بأنها هي التي تقف وراء تأجيج الأوضاع في هذا البلد، الذي تربطه حدود مشتركة مع روسيا يتجاوز طولها 7500 كيلومترا، في إطار سياستها القائمة على إشعال الأزمات على حدود روسيا، كما في أوكرانيا وجورجيا وبيلاروسيا وأذربيجان.

كل العالم بما فيه الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا نفسها والصين أيضا يهتم لهذه الأحداث ذلك لأن كازاخستان هي أكبر دولة في العالم من ناحية تصدير اليورانيوم المستخدم في المفاعلات النووية، إذ تحتوي أراضيها على 12 في المئة من المخزون العالمي لليورانيوم، وتنتج حوالي 43 في المئة من خام اليورانيوم الصناعي على مستوى العالم.

ونتيجة للأحداث الكازاخية الأخيرة ارتفع سعر خام اليورانيوم المستخدم في المفاعلات النووية بنسبة 8 في المئة نهاية الأسبوع، كما ارتفعت أسعار خام النفط في الأسواق العالمية يوم الخميس الماضي بنسبة 1.7 في المئة.

قد تكون خطة أميركا بإشعال تلك الأحداث بمثابة قطع أقرب طريق برية أمام الصين لأوروبا، والذي يمر عبر كازاخستان، ودفع روسيا لإرسال قوات لذلك البلد، والغرق في مستنقعه، كما حصل في أفغانستان، لكن الحقيقة أن مآلات الصراع في كازاخستان تبدو غامضة، وتشتد تعقيدا فقد دخلت البلاد في حالة انهيار وفوضى، وتسارع كبير في الأحداث، ويبدو أن الصراع سيكون أصعب وأشد تعقيدا من أوكرانيا، وأن معادلات الاستقرار والفوضى في الساحة الكازاخستانية تلعب بها قوى إقليمية ودولية.