هاني مسهور يكتب:

قراءة في الاستدارة التركية

تصفير المشاكل هي القاعدة الأولى التي انطلق منها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ وصوله لرئاسة وزراء الحكومة التركية في العام 2003 ومكنت تلك المنهجية السياسية لتركيا أن تحقق قفزات اقتصادية متسارعة دفعت بها لتدخل إلى مجموعة العشرين وهي المنظمة التي تجمع الاقتصادات الأكثر قوة في العالم.

امتدت التجربة التركية الاقتصادية رغماً عن المؤثرات السياسية الدولية فالأتراك واصلوا اهتماماتهم الاقتصادية فيما كانت التحولات تجري متسارعة من هجمات تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة والغزو الأميركي لأفغانستان والعراق.

استفادت تركيا من نتائج المتغيرات السياسية دون أن تقحم نفسها فيها، تركيا بلد كبير ومهم وموقعها بالنسبة للعالم العربي تحديداً له أهميته القصوى فتركيا تمثل السقف العربي بامتدادها الجغرافي مع إيران وهو ما يضيف من عوامل الأهمية البالغة جيوسياسياً على اعتبار أن تركيا ترتبط تاريخياً بهذه المنطقة الحيوية من الشرق الأوسط، هذه الاعتبارات حققت مكتسبات اقتصادية كبري للأتراك وحفزتهم أكثر لضرورة الانضمام للاتحاد الأوروبي وهو حلم تركيا الحديثة.

مرحلة الاستقطابات السياسية الحادة التي شهدتها المنطقة مع دخول موجة ما سمي "الربيع العربي" أبعدت أنقرة عن منهجيتها في تصفير المشاكل وأدخلتها في صراعات متعددة الأقطاب وهي مرحلة فقدت فيها المنطقة استقرارها النسبي، التدافعات أدت إلى انسدادات سياسية حتمية فكل الأطراف اعتمدت السياسات الصفرية للمحافظة على ما تراه مكتسبات وطنية وقومية عربية مضادة لتلك الرغبات المخالفة لها.

نتائج الانتخابات الأميركية التي أوصلت الرئيس جو بايدن للبيت الأبيض وأطاحت بدونالد ترامب كانت متغيراً دراماتيكياً هائلاً فعودة الحزب الديمقراطي في ظل تصاعد القوة الاقتصادية الصينية والتعافي الروسي مع الضغوط التي خلفتها جائحة كورونا خلق توازنات متغيرة عن ما كان قبل العقد الأخير على الأقل، ارتفاع التضخم في تركيا إلى جانب معضلات أخرى في الاقتصاد وضع البلاد في أزمة حقيقية تطلبت مراجعات للسياسات التركية.

الانسحاب الأميركي من افغانستان والمتوقع انسحاب مماثل من العراق مع عودة منتظرة للأميركيين إلى الاتفاق النووي مع إيران هي إفرازات للسياسات الأميركية والتي تستوجب تفاعلاً معها بين المحافظة على المكتسبات وبين البحث عن المصالح الاقتصادية الممكنة في العقد المقبل ضمن استقراء قصير الأمد وهو ما استدعى عملية الاستدارة السياسية التركية ناحية الدول العربية.

الانفتاح التركي على مصر عبر الاتصال المباشر قد يكون الأهم والأكثر حيوية وأهمية على اعتبار أن القاهرة وقد تعافت سياسياً بعد اسقاطها حكم الإخوان في ثورة 30 يونيو 2013 وبعد خوضها صراعاً شرساً مع الجماعات الإرهابية في سيناء ونجحت في السيطرة على الوضع الليبي إلى حد باتت معه التسوية السياسية ممكنة في حال استكمل إخراج المرتزقة من الأراضي الليبية، كما أن غاز شرق المتوسط والاستكشافات المصرية وضعت القاهرة في موقف المتحكم والقادر على إدارة هذه الملفات الشائكة، وهو ما حفز أنقرة على الاستدارة السياسية ناحية القاهرة والاتصال المباشر معها وأن كان الاتصال ضئيل في نتائجه غير أنه مهم واستمراريته أهم من انقطاعه.

الاستدارة التركية وجدت من الإمارات ترحيباً ضمن حركتها الديناميكية كأكثر دول المنطقة تأثيراً وتفاعلاً في سياسات الشرق الأوسط فالزيارات الرسمية التي بدأت بزيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد للقاء الرئيس أردوغان ثم زيارة ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد نائب القائد العام للقوات المسلحة كانت الفعل السياسي الذي ساهم على استكمال الأتراك على الاستدارة وانتظار ما يمكن أن تتوافق عليه أبوظبي وأنقرة في الاستحقاق السياسي الذي سيفتح للأتراك أبواب القاهرة لاستكمالهم عملية تصفير المشاكل ومن بعدها يمكن لحزب أردوغان التفكير جدياً في كسب انتخابات 2023 الحاسمة.

الاستدارة التركية للعالم العربي فتحت لها الإمارات الباب لتطبيع علاقاتها وهذا النهج الإماراتي بمد الجسور للجميع ضمن سياسة تعتمدها لخفض التصعيد وتوسيع دائرة الاستقرار بعد السنوات الصعبة التي كلفت شعوب المنطقة الشرق أوسطية الكثير من الفرص، المراجعات السياسية مهمة والأهم منها تجاوز الخلافات والبناء السياسي وفقاً للمصالح فلا أحد يستفيد من الأزمات بينما الجميع يستفيد من التسويات والمصالحات.