خير الله خير الله يكتب:
بوتين... ومرحلة ما بعد أوكرانيا
كشفت الازمة الاوكرانيّة إدارة جو بايدن. هناك إدارة اميركيّة تعتبر نفسها في مواجهة مع الصين، فيما تبدو مستعدّة للاستسلام امام "الجمهوريّة الاسلاميّة" في ايران. في ظلّ مثل هذه المعادلة ليس مستغربا ان يذهب فلاديمير بوتين الى النهاية في أوكرانيا بعدما اكتشف انّه امام إدارة اميركيّة لم تستطع ان تكون اكثر من امتداد لإدارة باراك أوباما.
تستطيع إدارة بايدن الصراخ والتهديد مقدار ما تشاء. في النهاية لا تستطيع اجبار روسيا على التراجع في أوكرانيا. ايّ نوع من العقوبات تستطيع فرضها على روسيا في وقت استطاع فلاديمير بوتين إعادة فتح كلّ القنوات مع الصين؟
اكثر من ذلك، يظلّ الكلام الأوروبي عن عقوبات على روسيا من النوع الذي لا معنى له في ضوء الحاجة الاوروبيّة الى الغاز الروسي.
ليست ردود فعل إدارة بايدن وليدة اليوم بمقدار ما هي وليدة سلسلة إخفاقات اميركيّة منذ اليوم الاوّل الذي تخاذل فيه جيمي كارتر امام ايران في تشرين الثاني – نوفمبر 1979 يوم احتجز "طلّاب" إيرانيون طاقم السفارة الأميركية في طهران. بقي هؤلاء رهائن لدى "الجمهوريّة الاسلاميّة" طوال 444 يوما. اطلقت الرهائن الـ52 بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، أواخر العام 1980 وبعد التأكّد من سقوط جيمي كارتر امام رونالد ريغان. كان مندوب لريغان (وليم كيسي) قد عقد صفقة سرّية مع "الجمهوريّة الاسلاميّة" تقضي بعدم اطلاق الرهائن قبل يوم الانتخابات.
كان تخاذل كارتر كافيا كي تبدأ سلسلة من التنازلات الاميركيّة المستمرة الى اليوم مع بعض الاستثناءات. من بين الاستثناءات اخراج العراق من الكويت في عهد جورج بوش الاب في مثل هذه الايّام من العام 1991 واغتيال قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس" في كانون الثاني – يناير 2020. في معظم ما تبقى من احداث، لم تقدم الإدارات الأميركية المتلاحقة سوى على وضع نفسها في تصرّف "الجمهوريّة الاسلاميّة"، خصوصا بعد اجتياح العراق في العام 2003.
قبل انتهاء الحرب الباردة وبعد انتهائها، وقبل انهيار الاتحاد السوفياتي وبعده، كان فلاديمير بوتين يراقب وذلك منذ كان ضابطا في الاستخبارات السوفياتية يعمل في المانيا الشرقية لدى انهيار جداد برلين. لا شكّ ان بوتين امتلك تلك القدرة على الربط بين الاحداث وصولا الى عهد باراك أوباما ونقاط التحوّل التي شهدها العالم طوال السنوات الثماني التي أمضاها في البيت الأبيض. استطاع التلاعب بالرئيس الأميركي صيف العام 2013 عندما استخدم بشّار الأسد السلاح الكيميائي في حربه على شعبه. اقنع بوتين أوباما، الذي كان مهتما باسترضاء ايران بعد دخوله في مفاوضات سرّية معها، بصرف النظر عن استخدام القوة في سوريا. كانت تلك نقطة التحوّل التي مهدت للتدخل الروسي المباشر من اجل انقاذ بشّار من السقوط النهائي... على ان يسلّم ما لديه من سلاح كيميائي ويستعيض عنه بالبراميل المتفجرة!
في كلّ مكان من هذا العالم، كشفت اميركا عجزها... حتّى مع فنزويلا التي ارتكب النظام فيها كلّ الجرائم الممكن ارتكابها في حقّ شعبه.
لعلّ اهمّ ما لاحظه بوتين انّ حلفاء الولايات المتحدة لا يثقون بها. على سبيل المثال وليس الحصر، لا بدّ ان يكون الرئيس الروسي توقّف طويلا عند التصرفات الأميركية تجاه ما يجري في اليمن والعدوانية الإيرانية تجاه دول الخليج العربي. ثمّة إصرار أميركي في مفاوضات فيينا غير المباشرة مع الإيرانيين، على الرغم من الصواريخ الي تطلقها "الجمهوريّة الاسلاميّة" في اتجاه أبوظبي، على تفادي أي ربط بين الملفّ النووي الإيراني وسلوك ايران خارج حدودها.
من يكتشف كل نقاط الضعف الاميركيّة هذه، لا يستطيع الّا العمل على الاستفادة منها. في النهاية صارت لدى روسيا قاعدتان على الساحل السوري وذلك بعدما استقرت فيه نهائيا ابتداء من ايلول – سبتمبر 2015. قبل ذلك، استعادت روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا ولم تحرّك أوروبا وأميركا ساكنا. كانت الذريعة ان شبه جزيرة القرم روسيّة أصلا وقد تخلّى عنها الزعيم السوفياتي خروتشوف لأوكرانيا في العام 1954 من منطلق ان أوكرانيا كانت احدى الجمهوريات السوفياتيّة.
بين اميركا الحائرة وأوروبا المفككة، يمارس فلاديمير بوتين هوايته المفضلة المتمثلة باللعب على نقاط الضعف لدى خصومه. انّه يساعد في بناء نظام دولي جديد بالتعاون مع الصين التي استطاعت خرق كلّ الاتفاقات التي وقعتها قبل الانسحاب البريطاني من هونغ كونغ. ليس مستبعدا ان تكون عين الصين على تايوان في انتظار اللحظة التي ستنقض فيها عليها.
هناك عالم يتغيّر. مؤسف انّه يتغيّر نحو الأسوأ في ظلّ وجود إدارة اميركيّة حائرة لا يعرف كثيرون، خصوصا دول المنطقة، كيف التعاطي معها. الأكيد انّ ما يثير مخاوف دول المنطقة، بما في ذلك تركيا حيث بدأ رجب طيّب اردوغان يعيد النظر بحساباته وطموحاته المبالغ فيها، ذلك الاستسلام امام ايران. ذهب اردوغان أخيرا الى أبوظبي ليؤكّد انّه قادر على ان يتغيّر وان يكون اكثر واقعيّة. عرف أخيرا معنى الفشل الاقتصادي والثمن الذي على دولة من دول العالم الثالث دفعه عندما تسعى الى لعب دور يفوق حجمها في المنطقة المحيطة بها وما يتجاوز هذه المنطقة.
لا شكّ ان فلاديمير بوتين رجل حاذق تلاعب بباراك أوباما ويتلاعب حاليا بجو بايدن. سيسجّل نقاطا على الاميركيين، على الرغم من ان اللعبة التي يمارسها تنطوي على مخاطر كبيرة. هذا لا يمنع من طرح تساؤلات تتناول ما يمكن ان يحصل في المدى الطويل. تتعلّق هذه التساؤلات بالهدف الذي ينوي بوتين تحقيقه في مرحلة ما بعد اوكرانيا. هل يكتفي بتحييد أوكرانيا ومنع انضمامها الى حلف شمال الأطلسي... ام يريد الذهاب الى ابعد من ذلك اوروبيا؟
ثمّة نقطة يفترض ان يتوقف عندها بوتين. تتعلّق هذه النقطة بالاقتصاد. ما ادّى الى انهيار الاتحاد السوفياتي هو الاقتصاد قبل ايّ شيء آخر. الاقتصاد اهمّ من الصواريخ والقنابل النوويّة والجيوش الجرارة. روسيا فشلت حيث نجحت الصين التي تعاني، على الرغم من نجاحها الاقتصادي، من نقاط ضعف كثيرة على الصعيد الداخلي. هل يدرك فلاديمير بوتين ذلك مع ما يعنيه من انّ الانتصارات الآنية شيء والمحافظة عليها في المدى الطويل شيء آخر!