محمد أبوالفضل يكتب:

خطة طوارئ مصرية عاجلة

أكثر أنواع الأزمات صعوبة على الدول تلك التي تنشأ بعيدا عنها وتتحكم فيها تطورات لا تملك من أمرها شيئا. هذا هو حال الكثير من دول العالم مع النتائج التي تمخض عنها التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. وتتفاوت مستويات التعامل معها من بلد إلى آخر وفقا للحالة الاقتصادية والأجندة السياسية والأوضاع الاجتماعية.

أصيب برنامج الإصلاح الاقتصادي الطموح في مصر بأزمتين عالميتين خلفتا آثارا سلبية عليه، حجّمت تقدمه المنتظر وجعلته خاضعا للآليات المستخدمة في مواجهة تأثير الأزمتين، وهما انتشار وباء كورونا الذي استنزف جانبا من جهد الحكومة وأموال مخصصة لمشروعات قومية كبرى، وفقا لقاعدة فقه الأولويات، والثاني انعكاسات الحرب الأوكرانية على الاحتياجات الغذائية والنفطية لمصر.

يحتاج امتصاص الصدمات الكبيرة إلى خطط طوارئ عاجلة قبل أن تتحول الأزمة الاقتصادية إلى سياسية أو اجتماعية وتتطور فتصيب عصب الجهاز الإداري للدولة المصرية، وهو ما جعل الحكومة تبحث عن الوسائل التي تمكّنها من تخفيف الأعباء.

سعت للتغلب على كورونا بتوفير الموارد التي توفر مناعة من الوقوع في براثن الركود، ونجحت في الحد من الآثار السلبية للمرض وقبلت بدفع الثمن على الفور، لكنها في النهاية وفّرت الغطاء الذي يمنع حدوث تدهور واسع في برنامج الإصلاح الاقتصادي بعد أن قطعت فيه شوطا جيدا وجنبت المواطنين تحمل فاتورة باهظة له.

ما أن عبرت عنق الزجاجة، كما يقول مصريون في المحكات الصعبة، حتى داهمتها أزمة الحرب في أوكرانيا، وأفاض الكثيرون في الحديث عن روافدها في الأمن الغذائي، وما أدت إليه من طفرة في أسعار غالبية السلع الغذائية، لأن القاهرة تستورد نحو 70 في المئة منها، في مقدمتها القمح الذي يأتي معظمه من روسيا وأوكرانيا.

قد تكون أوكرانيا البداية وليست النهاية، وعلى الحكومة المصرية الاستعداد لمواجهة المزيد من هذه الأشباح، فما يجري هو بداية لاستفاقة مصرية

اضطرت الحكومة المصرية إلى تغيير خططها بعد اعتقادها أنها تنفست الصعداء مع الانكسار الحاصل في موجات كورونا والتعايش معه كمرض متوطّن، ما يشير إلى إلحاق الضرر ببرنامج الإصلاح الاقتصادي حيث تضطر إلى فرملة بعض المشروعات الحيوية لتتمكن من سد العجز في مسألة المواد الغذائية التي يواجه استيرادها من الخارج صعوبات بالغة وإن وجدت أسواقا بديلة فهي تحتاج وقتا طويلا.

توقف الأزمات الدولية الكثير من التصورات الطموحة في المجال الاقتصادي، خاصة عندما تكون تداعياتها مباشرة على بعض الدول مهما بعدت جغرافيا عنها، فالحلقات التي يمر بها الاقتصاد العالمي لا تتيح فرصة للحديث عن استقلالية كبيرة، والتشابك في جوانب الاقتصاد لا يترك مجالا للحركة بمرونة لهذه الدولة أو تلك.

تعي الحكومة في مصر أبعاد هذه المعادلة وتمثل ضغطا كبيرا عليها، لأن برنامج الإصلاح يقف في منتصف الطريق، فاستكماله يحتاج إلى المزيد من الوقت والتراجع يقود لخسائر مضاعفة، من هنا جاءت إشكالية التعامل مع الأزمة العالمية وما تصطحبه من تشوهات في بلد مثل مصر، فكلما حاولت الحكومة رتق جانب اقتصادي ظهر آخر.

يتعرض استكمال مشروع رفع الدعم عن السلع الأساسية إلى اختبار قاس وفقدان الكثير من الأموال التي عملت الحكومة على توفيرها، ففي هذه الأجواء القاتمة لا يمكن أن تفكر في هذه القضية، والأصعب أنها مطالبة بردم الفجوة التي أفضت إليها الزيادة المرتفعة في الأسعار التي أثّرت على شريحة كبيرة من المواطنين يعيش حوالي نصفهم تحت خط الفقر، من خلال تخفيضات للسلع وإعادة دعمها وزيادة المعروض لخفض الأسعار والمواجهة الحاسمة للمضاربين في الأزمات بالداخل.

تواجه الحكومة موقفا صعبا، فهي مطالبة بعدم التخلي عن مشروع الإصلاح والتزاماتها مع صندوق النقد الدولي وسداد فوائد الديون، وتخفيف حدة المعاناة عن الناس، ومواجهة نتوءات يمكن أن تشوّه ما بدأته بشأن التوسع في المشروعات العملاقة الخاصة بالتنمية العمرانية، وتريد ألا تشغلها الهموم الداخلية عن أخرى خارجية لا تزال مفتوحة، أبرزها أزمة سد النهضة الإثيوبي التي تبحث عن حل خلّاق.

تقوم خطة الطوارئ على طمأنة المواطنين حول قدرة أجهزة الدولة على التصدي للتحديات، فكما جرى تخطي كورونا يمكن تجاوز أزمة الارتدادات التي خلفتها أزمة أوكرانيا بلا تنصّل من مشروع الإصلاح كوسيلة لعلاج أخطاء هيكلية يعاني منها الاقتصاد المصري منذ سنوات.

يحتاج امتصاص الصدمات الكبيرة إلى خطط طوارئ عاجلة قبل أن تتحول الأزمة الاقتصادية إلى سياسية أو اجتماعية

رغم القسوة التي تنطوي عليها الإجراءات المتبعة على الحكومة والمواطنين، إلا أنه لا مفر من التعاطي بواقعية مع الأزمة الحالية، فمن أدبيات تجاوز ما رشح من نتائج سلبية المكاشفة وتحمل المسؤولية بالتشارك بين الطرفين، وهي زاوية يعمل الإعلام المصري على ترسيخها لأن الخلل بين طرفي المعادلة يؤدي إلى صعوبة تخطي الأزمة.

لا أحد يعرف المدى الزمني الذي تستغرقه أزمة أوكرانيا، فوقف الحرب فورا لا يعني التخلص مما تركته من رواسب اقتصادية يحتاج التخلص منها نحو عامين على الأقل إذا افترضنا أن العملية العسكرية توقفت في اليوم التالي، الأمر الذي يستوجب أن تكون خطة الطوارئ طويلة المدى ويمكنها الصمود أمام توابع الزلزال الأوكراني.

قدم هذا الزلزال درسا وعرا لمصر التي صمتت أو استسلمت فترة طويلة لاستيراد السلع الأساسية، ولم تنبته حكوماتها المتعاقبة المسؤولة عن تنفيذ الخطط الاقتصادية أو قياداتها السياسية التي ترسمها إلى تحذيرات سابقة، بعضها تبنى شعارات براقة مثل “من لا يمتلك غذاءه لا يمتلك قراره” من دون العمل على تطبيقه بجدية.

التفت النظام المصري الراهن إلى فحوى هذا الشعار ولم يسمح لترديده في وسائل الإعلام من قبيل الدعاية الجوفاء، وعمل به في مجالات أخرى تتعلق بفكرة التنوع في العلاقات السياسية والتعاون العسكري وحتى الشراكات الاقتصادية، وبدأ خطوات عملية للتوسع في استصلاح الأراضي لتصبح صالحة لزراعة محاصيل متنوعة.

قبل أن ينضج هذا التوجه ويجني المصريون ثماره عاجلته أزمة كورونا ثم أوكرانيا، وكما جرى التأقلم مع الأولى يبدو أن الثانية سوف تسير على الطريق نفسه، فالتغيرات العالمية لن تتوقف عند حدود التدخل الروسي، لأنه محطة لن تنتهي معها أزمات الغذاء والغاز والنفط، فالمحطات التي يمر بها العالم لن تتوقف ولا تزال طويلة.

قد تكون أوكرانيا البداية وليست النهاية، وعلى الحكومة المصرية الاستعداد لمواجهة المزيد من هذه الأشباح، فما يجري هو بداية لاستفاقة مصرية تنهي التردد الذي أجّل تدشين خطط طوارئ متعلقة بتلبية جزء كبير من الطلب المحلي في مجال توريد الغذاء، لأن مصر لن تصبح دولة صناعية بالمفهوم الدقيق، لكن يمكن أن تعود كبلد زراعي كما كانت عبر آلاف السنين.