إبراهيم مشارة يكتب لـ(اليوم الثامن):

العقـــــــــاد والشعر

لا يعرف العقاد بين كثير من المتعلمين وبين شبابنا من طلاب المدارس بله وبين بعض المثقفين إلا أنه الكاتب العصامي الذي اكتفى في تعلمه النظامي بالمرحلة الابتدائية وتفرغ بعد ذلك للقراءة والكتابة كما أنه صاحب "العبقريات" المشهورة التي جعلت العقاد مرحبا بكتبه عند أنصار التيار الإسلامي ،بل إن الشيعة الإمامية  يحبذون كتابات العقاد عن آل البيت ،وليس غريبا أن تجد في مكتبات المساجد في ربوع العالم الإسلامي بعضا من كتبه.

لم يشتهر العقاد كشاعر مثلما اشتهر كناقد أدبي ومفكر إسلامي فقد طبقت شهرته الآفاق واعترف له بالصرامة والجد والمعرفة العميقة الخصوم قبل الأصدقاء .

على أن عدم شهرته كشاعر آلمته بعض الألم وكان يداريه خاصة في ندوته الأسبوعية في بيته وفي أحاديثه الإذاعية ومقابلاته الصحفية إلى حد أنه  كان لا يحبذ الحديث عن مواضيع مثل إمارة الشعر،الشعر الحديث ،شهرة بعض الشعراء الشباب.

أبدع العقاد كثيرا من القصائد التي احتوتها دواوينه العديدة" يقظة الصباح" ،"وهج الظهيرة"، "أعاصير مغرب" "أشجان الليل" و" عابر سبيل"و "هدية الكروان" والمتأمل في عناوين دواوينه هذه يدرك - والعنوان عتبة أولى- حرص العقاد على  المنطق والتفكير والحجاج ،فما يقظة الصباح إلا بواكيره الشعرية في شبابه وما وهج الظهيرة إلا إنتاجه الشعري في مرحلة فورة الشباب وفتوته وما أعاصير مغرب إلا توتر الكهولة وأخيرا  تأتي أشجان الليل لتحيل على شجن الشيخوخة بعجزها ووحدتها واقتراب المرء من النهاية المحتومة، هكذا يختار العقاد الشاعر عناوين تحيل على اليوم في مراحله المختلفة ولكل مرحلة ميزات خاصة في مقارنتها بسني عمره المعطاء.

بدأ العقاد ناقدا كما بدأ شاعرا فقد اشترك مع إبراهيم عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري في مدرسة نقدية عرفت باسم مدرسة الديوان لاشتراكهم في كتاب نقدي بهذا العنوان وإن كان شكري قد اعتزلهما وبقي العقاد والمازني في المضمار النقدي بجرأتهما وقسوتهما النقدية المعروفة .

ولا يمكن فهم الآراء النقدية للعقاد دون التعمق في خلفيته الثقافية فقد كان  قارئا نهما لمجموعة "الكنز الذهبي" وهي مجموعة شعرية مختارة لرواد الشعر الإنجليزي الرومنطيقي خاصة كما كان معجبا ومتمثلا للآراء النقدية للناقد الإنجليزي هازلت ثم الناقد الألماني ليسنج  كما ساعدته ثقافته النقدية العربية الكلاسيكية  على المضي قدما في دعوته إلى شعر جديد وتجديد  نسغ الحياة فيه،.وهكذا بلور نظرية نقدية ظل يدعو ويقيس على ضوئها الإبداع الشعري العربي  كما أبدع هو شخصيا شعره الذي ضمته دواوينه المختلفة.

حين بدأ العقاد شاعرا وناقدا كانت المدرسة الكلاسيكية الرصينة قد بسطت نفوذها مع إسماعيل صبري ومحمود سامي البارودي ثم حافظ الذي لقب بشاعر النيل وأحمد شوقي الذي قلد إمارة الشعر العربي الحديث  وقال حافظ في المناسبة:

أميرالقوافي قد أتيت مبايعـــــــــــا

وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

واللافت أن شوقي وجه الدعوة للعقاد لحضور حفل التقليد هذا لكن العقاد امتنع عن الحضور  وكان بينه وبين الشاعر جفاء وبرودة خاصة لما كان يتناهى إلى سمع شوقي من نقد العقاد الشديد له إلى حد التهكم من شعره .

وكان النقد في بواكيره فقهيا لا يتعدى النحو والبلاغة ودراسة الأساليب على الشكل المأثور القديم مع الولع باكتشاف السرقات والاقتباس والتضمين وقد مثله سيد علي المرصفي وحفني ناصف وأحمد الإسكندري.

كان شوقي ملء السمع والبصر أينما حل وارتحل وكانت قصائده تتداول بإعجاب شديد سواء قصائده الوطنية أم قصائده الدينية حتى إن السيدة أم كلثوم لما غنت له قوله  من قصيدة "ولد الهدي" :

الإشتراكيون أنت إمامــــــهم

لولا دعاوى القوم والغلــــواء

دوايت متئدا وداووا ظفـــــرة

وأخف من بعض الدواء الداء

طلب القصر إسقاط هذين البيتين لأنه رأى فيها دعوة صريحة للاشتراكية في مصر  لكن السيدة أصرت على إبقائهما وغنتهما مع باقي الأبيات.

جاء شوقي ومدرسة الإحياء بريادة  البارودي قد خلصت الشعر من إسفاف العصر المتأخر ومن الولع بحساب الجمل والتورية والإلغاز وكل أشكال التكلف والتحذلق أي الاهتمام بالشكل على حساب المضمون أو المبنى كما يقول أسلافنا النقاد على حساب المعنى وأعادت هذه المدرسة إلى الشعر وهجه وحيويته بتمثل البلاغة الرصينة بلا تكلف وسمو المعنى والتوجه نحو الناس والوطن  مما جعل الناس يقبلون على هذه الأشعار ويتداولونها ويحتفي بها النقاد والمثقفون  وأمعن الشعراء في الهم الوطني والقومي والديني فزاد حظ هذه الشعر من الذيوع والقبول.

وطد شوقي مكانة الشعر في المجتمع  بعد أن خرج الشاعر من التاريخ والحياة معا وكانت إمارة الشعر اعترافا بريادته الشعرية وانطلاقته كما كان حافظ رديفا له في الإبداع وتوطيد مكانة الشعر في المجتمع وخاصة أن حافظ توجه إلى الجماهير الكادحة.

 

وكان العقاد في بواكيره الشعرية ينزع منزعا ذاتيا وتأمليا يتامل ذاته والعالم فيأتي شعره صورة لنفسه المفكرة المتأملة المتعمقة لجوهر الشيء  وقد كانت جماعة الديوان تتخذ من بيت لعبد الرحمن شكري شعارا لها:

ألا ياطائر الفـــــــــــــر

دوس إن الشعر وجدان

وقد ناقش العقاد في مقالاته النقدية الوحدة العضوية وكون الشعر صورة عن النفس واستحالة تقديم بيت على آخر دون انهيار معنى القصيدة لوجود رباط عقلي ووجداني بينها كما أن الشاعر هو الذي ينفذ إلى لباب الشيء ليقول لك ماهو لا الذي يعدد الأشياء في إشارة ناقدة إلى شوقي .

نقد شديد لشوقي وجفاء طبع علاقتهما حتى بعد رحيل شوقي ولم يغير العقاد موقفه ويحلو لبعض النقاد تعليل ذلك باختلاف أصولهما فالعقاد يعود في منبته لأسرة كادحة بسيطة بينما شوقي يعود لأسرة وجيهة غنية وهكذا يختصر الخصام في خلفية طبقية،وهو رأي فيه إجحاف كبير.

لقد فتح العقاد الشاعر والناقد عينيه على ثقافة  الدنيا وتمثل هموم عصره الفردية والوجودية وآمن أن الأدب الذي يعبر أصدق تعبير عن هذا العصر هو الأدب الجديد لا السير على منوال القدماء فقط دون هدم الأصول( الأدب السلفي كما يسميه) .

ومن أجل ذلك توجه في ديوان عابر سبيل إلى الكاديحين والمهمشين وجعلهم مثار تأمله أسوة بشعراء  الإنجليز فلما كان الناس والمهمشون أو البسطاء هم جزء هام من الحياة ومادام الشعر هو تعبير عن الحياة في عنفوانها وانحطاطها، في جدها ولعبها، في صدقها وتهافتها فلابد أن يكون الشعر صورة صادقة  عن ذلك ولابد أن يتناول الإنسان ويجعله موضوعا للتأمل الشعري.

يرى زكي نجيب محمود أن العقاد غلب عليه التفكير والحجاج والتحليل واستقصاء الفكرة مصداقا لحياته الصارمة الدقيقة لذا جاء شعره شعر برهان وحجاج وتحليل وتعليل وهو أول من أطلق عليه لقب شاعر الجلال لولعه بالجليل والعظيم ولربما  كان في البنية الجسدية  للعقاد من طول القامة واعتداد بالنفس وولعه بأخبار العظماء والقادة وهو ذاته لم يكف عن القول إن التاريخ صناعة فردية ،كل ذلك جره إلى التعلق بالمثل العليا والتركيز على عظائم الأمور وانعكس ذلك على شعره فجاء صورة صادقة عن تفكيره واهتمامه.

كما ذهب شوقي ضيف هذا المذهب في تعليل عزوف الناس عن شعر العقاد واهتمامهم بكتاباته الفكرية كون شعره عمارة منطقية تتميز بالجفاف  والبرودة في آن معا قياسا إلى شعر أبولو مثلا عند علي محمود طه وأحمد رامي، والهمشري، وصالح جودت وغيرهم.

وهذا الرأي يصح ولكن لا  ينفي وجود كثير من القصائد عند العقاد اتسمت بالغنائية الشجية وعدم الولوع بالحجاج الذي يرهق القارئ ففي هذه القصائد انطلاقة وانسيابية شجية مثل قصيدة ظمآن:

 

ظمآن لاصوب الغمــــــــــــــــــام ولا

عذب المدام ولا الأنـــــــــداء ترويني

شعري دموعي وما بالشعر من عوض

عن الدموع نفاها جفن محـــــــــــزون

أصـــــــــاحب الدهر لا قلـب فيسعدني

على الزمان ولا خــــل فيـــــــــأسوني

يديك فامح  ضنى يـــــاموت في كبدي

فليس تمحوه إلا حين تمحــــــــــــوني

ولقد خاض العقاد أكبر معركة مع الجيل الجديد من الشباب رواد الشعر الحديث أمثال صلاح عبد الصبور ،أمل دنقل، أحمد عبد المعطي حجازي، نزار قباني ومع الحاضنة النقدية لهم رجاء النقاش وعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم ولويس عوض  وكان يسمي شعرهم بالشعر السائب ويرى أنه مجرد هجص وتجديف مستخدما أقذع العبارات في حقهم مؤكدا أن هذا الشعر سيؤول إلى التلاشي والزوال وكان يحيل قصائدهم لما كان مقررا للجنة الشعر في المجلس الأعلى للآداب والفنون على لجنة النثر للاختصاص  وكان الشعراء الشباب يردون عليه باحتشام لكن صلاح عبد الصبور تجرأ وكتب مقالا عنيفا جعل عنوانه "والله موزون" متهكما من العقاد الذي رأى  أن هذا الشعر ينقصه الوزن وأن الشعراء الشباب نظرا لعجزهم لا ذوا بهذه النوع  من الشعر وقد تحداهم أن يكتبوا قصيدة عمودية وكانوا يرفضون لا عجزا ولكن إصرارا على الانتهاء من الشكل القديم للقصيدة العربية وقد نظمها  عبد الصبور مرة وأقلع كرد فعل على تحدي العقاد لهم.

برر العقاد القصيدة على النمط العمودي كون الشاعر لابد له من القيود وقيده الوزن والقافية فالشاعر الحقيقي لا يعجزه هذا القيد عن التعبير والانطلاق وهنا يتميز الشاعر عن المتشاعر فالشعر مثل الرقص ،إن الراقص هو الذي يذهب إلى غايته فنيا وهو يقدر على المشي وكذا الشاعر هو الذي يلتزم بالقيود دون أن تحد من انطلاقه .

ولقد تنبأ العقاد بنهاية الشعر الحديث وانصراف الناس عنه وعودة القصيدة العمودية إلى الصدارة سواء أكانت شعرا على النمط القديم أم مرسلا أم متنوع القوافي على غرار فن  التوشيح وهذا يكفي كتجديد لوجه القصية وخلاياها إلا أن الذي حدث أن طلاب الشعر الحديث تكاثروا وتعدد المبدعون له كما تعلق الناس بهم خاصة في منزعه الجماهيري وطموحات الكادحين والإخفاق السياسي فذاعت قصائد أحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور ومحمد عفيفي مطر والسياب  والملائكة ونزار قباني والبياتي وغيرهم ولم يكتف المبدعون اللاحقون بالوقوف عند الحدود التي رسمتها نازك الملائكة في "قضايا الشعر المعاصر" بل أمعنوا في التوليد الهدام للمعنى بتوصيف جوليا كريستيفيا والمبنى  كذلك حتى انتهوا إلى اطراح الوزن مكتفين بالإيقاع الداخلي وهاهي قصيدة النثر تطرح نفسها كبديل حضاري وثقافي وفني وتراهن على البقاء والصمود أمام  عاديات الزمن.

لقد أحرز العقاد على مكانة وشهرة في العصر الحديث وكان ملء السمع والبصر وهو من الكتاب الذين تظل كتبهم تحتل صدارة المبيعات وتتجدد لها الطبعات خاصة إسلامياته ونال ألقابا أرضت كبرياءه ودغدغت مشاعر العظمة والتفرد عنده مثل عملاق الأدب والفكر ،جبار الأدب والفكر ولكن في صميم الذات العقادية يجثم شعور بالألم المكبوت والتحسر الدفين على عدم اشتهاره كشاعر وعدم تداول أشعاره كما تتداول مؤلفاته.

لقد كتب وقال إن أعظم ذات هي الذات الشاعرة وزبدة القول وصفوة الكلام هو الشعر بل رفع الشاعر إلى عليين:

يجني المودة مما لاحيـــــــــاة له

إذا جفاه من الأحياء خـــــــــــوان

والشعر ألسنة تفضي الحياة بهـــا

إلى الحياة بما يطويه كتمـــــــــان

لولا القريض لكانت وهي فاتنـــة

خرساء ليس لها بالقول تبــــــــيان

والشــعر من نفس الرحمن مقتبس

والشــاعر الفذ بين الناس رحمــــن

غير أن واجب الإنصاف للرجل يقتضي الإشادة بآرائه النقدية كونها خارطة طريق للإبداع في ذلك الوقت ساهمت في تطور الشعر والنثر معا كما أن مدرسة الديوان لعبت دورا كبيرا في تجديد الأدب العربي الحديث وانضوى تحت لوائها العشرات من الشعراء والكتاب والنقاد كما أن ملاحظاته ومآخذه على الشعر الإحيائي وشعر شوقي قد أفادت الشعراء والقصيد بعده خاصة فيما يتعلق بالوحدة العضوية والمنزع التأملي وفي كون الشعر صورة عن الذات الشاعرة .