سلام التميمي يكتب لـ(اليوم الثامن):
بين طاهي البحر وجزيرة الكنز.. قراءة في فن روبرت لويس ستيفنسون
يتفق معظم القراء مع هنري جيمس على إن جزيرة الكنز فريدة من نوعها, ويتفقون أيضاً على أن هذا النوع يختلف تماماً عن أي نوع سعى أو رغب جيمس أن يكتب فيه, أما كيف يجب النظر إلى الكتاب فهو أمر مشكوك فيه أكثر, أُتُهم روبين وود و فرانسوا تروفوي بأنهما حملا محمل الجد بعض أفلام الفريد هيتشكوك, ويثير ستيفنسون كما يبدو مشكلة نقدية مماثلة, أنا لا أعرف إن ناقداً عُنِّف لأنه أدخل جزيرة الكنزفي مناقشة أدبية وقيل له : لنترك جون سيلفر وساقه الخشبية إلى أطفالنا وطفولتنا, أهذا كل ما يلزم قوله حتى لو كانت ساقه خشبية؟, لا يمكن فصل إيفاء جزيرة الكنز بالمطالب الجمالية عن الكمال الذي به حقق ستيفنسون غرضه, وهو الكتابة في جنس خاص من الفن التعبيري, حيث أستمرت قصته عبر أجيال عديدة, تجذب القُرّاء ويُقدمون عليها طوعاً, وصِفت الرواية كأفضل كتاب كُتِبَ للصغار في أي وقت, وقدم ستيفنسون شرحاً واضحاً ووافياً للأسباب التي حدت به إلى كتابة جزيرة الكنز, وهو أمر غير معروف عند معظم الكتاب, كتب عنها في الأيدلر آب عام 1894 وهي مجلة نصف شهرية يقول فيها : أردتها قصة للصغار, فلا لزوم لعلم النفس, ولا للكتابة الرفيعة, توفر بقربي صبي ليكون وسيلة أختبار, أقصيت النساء, ولم أقدر على قيادة سفينة بشراعين _ وهذا ماكنت عليه الهيسبانيولا _, لكن أعتقدت أنني أستطيع قيادة سفينة من نوع سكونة دون أن أعرض نفسي للخجل, ثم خطر ببالي لونك جون سيلفر, وتوسمت فيه خزيناً من التسلية .
وفي المقالة نفسها يصف ستيفنسون ظروفه الشخصية وأحواله الحياتية عندما كتب القصة, ويذكر أيضاً مراجعه الأدبية ومنهم ربينسون كروزو, أدغار الآن بو, واشنطون ايرفينك, وكينكلسي, وكل ما يلزم أضافته هو إن جزيرة الكنز ظهرت أول مرة بشكل يختلف قليلاً كمسلسل بين تشرين الثاني 1881 وكانون الثاني 1882 وذُكر أن مؤلفها هو الربان جورج نورث, ومن الجدير بالذكر أنه هناك ظهر أيضاً كتاب رديء بأسم السهم الأسود, وتؤكد المقارنة بين الأثنين أن نجاح جزيرة الكنز لايعود فقط إلى أنها قصة جيدة, لم تكن جزيرة الكنز في الحقيقة أول كتب ستيفنسون, لكن لسبب وجيه كتب عنها كما لو أنها كذلك, كانت أول كتاب له يصبح من خلاله مشهوراً ومحبوباً, وإذا نظرنا إلى الرواية في ضوء جميع أعماله, نجدها تؤذن بخروجه عن تكلف أعماله السابقة, في جزيرة الكنز يبلغ عمل ستيفنسون لأول مرة الرشد _ بالمعنى الذي تستعمل به الكلمة من لدنّ النقاد دوماً _ لتعني عملاً رصيناً ومقنعاً للكبار, لكن بمفارقة طريفة, بلغ عمله أول الرشد حين أستطاع أسترجاع وجهة نظر طفل, وبهذه العملية حلّ السحر الأصيل محل السحر المتكلف لأعماله الأولى, لأول مرة نرى ستيفنسون الذي كتب من بعد رواية المختطف وحديقة أشعار لطفل, لكن ليس من الواضح ما إذا كنا في جزيرة الكنز نستطيع بعد رؤية البوادر الأولى لمحاولات ستيفنسون اللاحقة التي وصفها السيد لسلي فيدلر بأنها تستثمر بعمق أكبر معنى حكايته الرمزية الشاملة, بينما تحافظ كقصص مثيرة على تركيبها وجذبها للجمهورحيث أرادها كما قال قصة للصغار .
في نظر ستيفنسون كما هو واضح قصة الصغار فرع من الأدب الرومانسي, الذي يتميز غالباً بأبعاد عناصر معينة, يوضح ستيفنسون عناصر التعقيد الخاصة بالبالغين التي يبعدها عن المضمون الظاهر للحكاية, ويبقى للتحقيق النقدي العناصر المستبعدة من المعنى المستتر, ومن ثم المتضمنة فيه, نقطة واحدة بشكل خاص : لماذا كان التأثير العاطفي للكنز ضئيلاً في القصة؟ .
تكشف لنا جزيرة الكنز بوضوح سبب أقبال القراء الدائم عليها هي مهارة ستيفنسون في السرد القصصي, أوضح هذا بشكل جيد ديفيد ديجز في دراسته الرائعة عن ستيفنسون, حيث إن بيلي بونز الربان العجوز مجرد أداة فنية لاغير, يأتي من عالم ما قبل القصة, تقود شخصيته وأفعاله إلى قلب القصة وتمدنا ذكريات أيامه في نزل الادميرال بينبو بعناصر عالم ما بعد القصة, حين يستعيد جيم البالغ ذكريات الماضي, وبالطبع يجلب بيلي بونز معه نغمة من الشذوذ إلى عالم جيم الطبيعي, ويمد جيم ومن ثم القارئ بوسيلة للدخول في عالم المغامرة الخلابة, غير أن بيلي بونز يقدم أيضاً نموذجاً لمهارة ستيفنسون حين يصبح أداة لسرد القصة, وتتلخص وظيفة بيلي بونز في ربط عالم فلينت _ رمز الشر _ بعالم الادميرال بينبو ويجلب معه الخطر والريبة والغموض, لكنه أيضاً يجلب الحيوية والإثارة ويومئ مسبقاً إلى غموض معنى الشر في القصة, لو تأملنا قليلا في الرواية نراها على أنها خليط بين المعايير الخيالية والأخلاقية التي شغلت بال ستيفنسون بأشكال مهمة أكثر طيلة حياته الأدبية, والمطلوب منا عند قراءة جزيرة الكنز الأنتباه إلى أن بونز ليس شخصية مقيتة كلياً, على الرغم من فظاظته وخبثه وماضيه اللصوصي, يخافه جيم أقل مما يخافه أكثر الناس, حتى أنه أثناء مرض بونز الأخير أحس نحوه بثقة حميمة, لكن تقوم علاقات جيم الأجتماعية في القصة على الصلة بينه وبين سلسلة من المربين, ومن الصعب أن لا نعتبر بيلي بونز أول مرشح لهذا الدور ولو أنه مرشح هزيل مضحك, ماهو أذاً شعورنا في نهاية جزيرة الكنز؟ هل أُبقيَّ على تقاليد الرومانسية النظرة, هل نال الأخيار الثواب والأشرار العقاب, هل حلَّ هروب سيلفر مشكلة فنية, حيث ينسجم هروبه مع دوره الغامض طوال القصة .
لكن ما الكنز؟, ربما يقول البعض أنه مجرد عنصر ضروري للحبكة, ولا أثر أخلاقي له, يسعى للحصول عليه الأخيار والأشرارعلى حدٍ سواء, ربما يشعر آخرون كما يشعر جيم بأنه ملوث بالدم المسفوح من أجله ومدنس بشر فلينت الذي دفنه هناك, من ناحية ثانية ربما يشعر البعض الآخر أنه ذهب, ليس كذهب التجارة ولا كذهب روايات بلزاك, في مخيلة الصغير البريء القرصان رمز للوغد وهذا ذهب قراصنة, أنا شخصياً لا أعتقد أن للذهب دلالة رمزية واسعة, أنه رمز للجشع أكثر مما هو حلم حالم, دلالته العاطفية ضئيلة يخلو تقريباً من الأثارة الحسية الداخلية, في الغالب الظفر بالكنز إخذال للتوقعات العالية, على أية حال تنتهي الرواية بنغمة حزينة ( لن أعود ثانية لهذه الجزيرة الملعونة ), يجعلني هذا أشعر أن للرواية مضموناً خطيراً, ويتمثل هذا في العلاقة بين سيلفر وجيم, وأن هناك عناصر حقيقية خلقت هذه العلاقة, أي أن هناك عناصر لها دلالتها الشخصية بالنسبة لستيفنسون .
يخلو الفوز بالكنز من الثقل العاطفي, قد يُجمع قراء كثيرون على أن طاهي البحر الأسم الذي أختاره للرواية ستيفنسون أولاً أفضل من الأسم الذي أختاره في النهاية, حيث توصل بالبديهية والحدس إلى أنه لايستطيع التوفيق بين نموذجين أصليين قويين كطاهي البحر وكنز مدفون, ربما كان عزوف ستيفنسون عن كنز جزيرة الكنز علاقة بالتوازن الذي حصل في حياته أنذاك, حيث كانت علاقته بأبيه صعبة بسبب العاطفة والخلاف القوي, لكن بعد الزواج من امرأة تحنو عليه كأم وجد إلى حدّ ما حلاً لهذه المشكلة, شارك أبوه بحماسة في روايته كذلك شارك الصبي لويد اوزبورن أبن زوجته, وهو أول كتاب حقق فيه طموحاته كؤلف, ومع ذلك في نهاية الرواية نجد تلك النغمة الحزينة الغريبة, وهذا شيء لاذع وغير مناسب في قصة أرادها أن تكون للصغار, أذن أين النهاية السعيدة؟ .
أنا لا أدعي أن في جزيرة الكنز قوة عاطفية تضاهي تلك التي نجدها في حكاية ستيفنسون الكئيبة الكالحة المغزى والتي أسماها بيت أيلد, لكن قياساً على ما لـ جزيرة الكنز من منزلة يمكن القول أنها تحقق الغرض الذي تنشده كل الروايات, أي أنها تزود القارئ بفهم تخيلي لطبيعة البشر وتضعه في ظروف مثالية لممارسة ذلك الفهم, تدحض هذه الرواية لوحدها وجهة نظر لاتزال شائعة, تدعي وجهة نظر هذه إن ستيفنسون لم يكن كاتباً مبدعاً إنما كان كاتب مقالة نجح بين حين وآخر بتزيين قصص خفيفة بلمسات مميزة, إذا أخذت جزيرة الكنز في سياق فن ستيفنسون المتطور يمكن أعتبارها مسودة تمهيدية لموضوعه الرئيسي : وهو الموضوع نفسه أو التأمل الذي يطرحه ستيفنسون من خلال كلمات يضعها على لسان دكتور جيكل ومستر هايد .