د. حسن نافعة يكتب:
العقوبات الاقتصادية وإدارة العلاقات الدولية
ما الآثار التي قد تترتب على استخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح في عملية إدارة السياسة الخارجية للدول؟
أصبحت العقوبات الاقتصادية أحد أهم الأسلحة التي كثيراً ما تلجأ إليها بعض الدول، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، لفرض إرادتها على دول أخرى ترى أنها تنتهج سياسات تضر بمصالحها الخاصة، أمنية كانت أم سياسية أم اقتصادية، ولإجبارها على تبني سياسات أكثر اتساقاً مع هذه المصالح.
إلى أي مدى يعد اللجوء إلى هذا النوع من العقوبات أمراً مشروعاً في العلاقات الدولية؟ وما الآثار التي قد تترتب على استخدامها كسلاح في عملية إدارة السياسة الخارجية للدول؟
في الواقع، إذا نظرنا إلى هذا الموضوع من منظور قانوني، فسنجد أنه ما زال يثير بعضاً من الجدل، وربما الالتباس، فالفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة تنصّ على ضروة "امتناع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة عن التهديد باستعمال القوة في علاقاتها الدولية، أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة".
لكنَّ بعض شارحي ميثاق الأمم المتحدة يرون أنَّ الحظر المقصود في هذه الفقرة ينصرف إلى القوة العسكرية وحدها دون غيرها من وسائل القوة، الناعمة منها والخشنة، كالقوّة الاقتصادية التي أحياناً ما تكون أشد ضرراً وفتكاً من القوة العسكرية ذاتها، غير أن هذا الفهم يقصر في تقديرنا عن الإلمام بمختلف جوانب القضية، وخصوصاً إذا ما ربطنا نص هذه الفقرة بنصوص فقرات ومواد أخرى، أو إذا نظرنا إليها استناداً إلى روح الميثاق نفسه.
تضع الفقرة الثانية من المادة الأولى "إنماء العلاقات الودية بين الشعوب" في مقدمة الأهداف التي ينبغي لمنظمة الأمم المتحدة أن تسعى لتحقيقها، وتؤكّد أنه "ينبغي أن يتم على أساس مبدأ المساواة في الحقوق بين الشعوب، وفي مقدمتها حق تقرير المصير، وكذلك التدابير الأخرى لتعزيز السلم العام".
ولا شكَّ في أنَّ الإسراف في استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية لا يساعد على إنماء العلاقات الودية بين الشعوب. يُضاف إلى ما تقدم أنَّ المادة 41 تقول نصاً: "لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب من أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً وقطع العلاقات الدبلوماسية".
معنى ذلك أنَّ لفرض العقوبات غير العسكرية ضوابط يتعيَّن الالتزام بها، وأن مجلس الأمن هو الجهة الوحيدة المرخص لها بفرض هذا النوع من العقوبات أو أي عقوبات أخرى، في إطار السلطات والصلاحيات المخولة له بموجب الفصل السابع من الميثاق، وهي عقوبات لا ينبغي أن تُفرض إلا على الدول التي يرى المجلس، وليس أي جهة أخرى، أنها ارتكبت عدواناً أو شكَّل سلوكها تهديداً للسلم والأمن الدوليين.
لذا، يمكن التأكيد أن العقوبات الاقتصادية التي تفرض خارج إطار مجلس الأمن تعد غير مشروعة، وتنطوي على انتهاك صارخ للقانون الدولي والشرعية الدولية. ولا يجوز التعلل هنا بحقّ الدول في فرض هذه العقوبات استناداً إلى مفهوم السيادة، فسيادة الدول ليست مطلقة، إنما هي مقيدة دائماً بما تفرضه قواعد القانون الدولي المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، وبمتطلبات الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وخصوصاً أمن الشعوب والمجتمعات.
إذا ما نحّينا الجانب القانوني جانباً، وحاولنا تمحيص هذه المسألة من منظور سياسي، فسنجد أنَّ لجوء الدول إلى العقوبات الاقتصادية، كسلاح لتحقيق أهداف سياسية، من شأنه إحداث فوضى هائلة في مجرى العلاقات الدولية، فهو، من ناحية، سلاح غير قابل للاستخدام إلا من جانب الدول القوية وحدها، لأنَّ الدول الضعيفة سياسياً وعسكرياً لا تستطيع من الناحية العملية، ولا تجرؤ على استخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح من أجل تحقيق أغراض سياسية، وإلا تعرضت بسهولة لردود انتقامية مبررة ومكلفة من جانب الدول الأقوى منها.
معنى ذلك أن سلاح العقوبات الاقتصادية له بعد "تمييزي" بطبيعته. ومن ثم، إنَّ استخدامه يؤدي من الناحية العملية إلى نسف قاعدة "المساواة السيادية" التي هي أساس التعامل في العلاقة بين الدول، وهو، من ناحية أخرى، سلاح لا يستخدم في معظم الأحيان إلا في مواجهة الدولة الضعيفة أو الأقل قوة، واللجوء المتكرر إليه يؤدي إلى تكريس علاقات التبعية القائمة في النظام الدولي، وهو ما يفسر سبب كون الولايات المتحدة الأميركية الدولة الأكثر استخداماً لسلاح العقوبات الاقتصادية، إذ سبق لها أن استخدمته في عشرات الحالات، وخصوصاً في مواجهة كوبا وكوريا الشمالية وإيران وفنزويلا وغيرها.
أما حين يستخدم سلاح العقوبات الاقتصادية من جانب الدول الكبرى في مواجهة بعضها البعض، فلا شكّ في أنه يثير حالة من الفوضى في مختلف جنبات العلاقات الدولية، وينعكس سلباً على أداء الاقتصاد العالمي ككل، لكن دول العالم الثالث تصبح بالقطع هي الأكثر تضرراً. والمثال الأوضح على هذا الوضع هو العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا في أعقاب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
إنّ روسيا التي ترى أنَّ الولايات المتحدة وحلفاءها يحاولون استخدام أوكرانيا كمخلب قط لتهديد أمنها، لم تتردد في اللجوء إلى القوة العسكرية. أما الولايات المتحدة وحلفاؤها، الذين يرون أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هي الخطوة الأولى نحو إعادة إحياء الاتحاد السوفياتي بالقوة المسلحة، فقد ردوا بفرض عقوبات اقتصادية هائلة على روسيا.
ويُلاحَظ هنا أنَّ الاستخدام الفعلي للقوة، سواء القوة العسكرية من جانب روسيا أو القوة الاقتصادية من جانب الولايات المتحدة وحلفائها، تم خارج نطاق مجلس الأمن؛ الجهة الوحيدة المخوّلة شرعاً باستخدام القوة في العلاقات الدولية، والسؤال: من المتضرر الحقيقي أو المتضرر الأكبر من هذا الوضع؟
في الواقع، إنه الشعب الأوكراني من ناحية، وشعوب العالم الثالث من ناحية أخرى. هم من يدفعون في النهاية الثمن الأفدح لهذه التصرفات الأحادية؛ فاستخدام القوة المسلحة من جانب روسيا أدى وسيؤدي إلى مقتل وإصابة آلاف الأوكرانيين وتشريد الملايين منهم، وتحويل العديد من مدنهم ومؤسساتهم العلمية والإنتاجية والخدمية إلى كومة من الركام.
إنَّ استخدام العقوبات الاقتصادية من جانب الولايات المتحدة وحلفائها سيلحق أذى محققاً بشعوب الدول الأخرى، وخصوصاً دول العالم الثالث غير النفطية، فالولايات المتحدة والدول المتحالفة معها تملك من وسائل القوة الاقتصادية ما يمكّنها من التغلب على الآثار الجانبية للعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، والأخيرة لديها من الموارد والإمكانيات ما يكفي لتمكينها من تجاوز الآثار السلبية لهذه العقوبات، وخصوصاً على المدى القصير والمتوسط.
أما شعوب العالم الثالث، وخصوصاً شعوب الدول غير النفطية، فهي المتضرر الأكبر منها، وذلك بسبب ما أدت إليه الحرب والعقوبات معاً من ارتفاع هائل في أسعار المواد الأولية، وخصوصاً أسعار النفط والغاز والقمح والأسمدة وغيرها من المواد اللازمة لإنتاج الحاجات الأساسية اللازمة لإعاشة شعوب الدول الفقيرة.
وقد أشار السكرتير العام في الإحاطة التي قدمها إلى مجلس الأمن في جلسته التي انعقدت يوم الثلاثاء الماضي (5 نيسان/أبريل 2022) إلى أنَّ عدد الفقراء في العالم، أي عدد الأشخاص الذين لا يستطيعون الحصول إلا على وجبة غذاء واحدة في اليوم، تضاعف خلال السنوات الثلاث السابقة (بسبب "كوفيد 19" من ناحية، والأزمة الأوكرانية من ناحية أخرى)، ووصل الآن إلى حوالى 326 مليون نسمة.
لا يعرف أحد بالضبط كيف أو متى ستنتهي العملية العسكرية الحالية في أوكرانيا، لكن على الأرجح أننا سنكون إزاء عالم مختلف حين تصمت المدافع. وحينئذ، سيكون على قادة هذا العالم ونخبه الثقافية والفكرية أن يعيدوا التفكير في معنى "حظر استخدام أو التهديد باستخدام القوة في العلاقات الدولية"، وهي القاعدة الرئيسية لإدارة العلاقات الدولية، وأن يتوافقوا معاً على أنسب الوسائل لكي يتضمّن التطبيق العملي لهذا الحظر كلّ عناصر القوة ومكوناتها بمعناها الشامل، وخصوصاً جوانبها الاقتصادية، وأن لا تقتصر على العنصر والمكون العسكري.
وينبغي لهم في الوقت نفسه إعادة الاعتبار إلى مجلس الأمن؛ الجهة الوحيدة المخولة بمراقبة استخدام القوة في العلاقات الدولية، وبالتالي ردع ومعاقبة كلّ من يجرؤ على استخدامها ومخالفة أحكام القانون الدولي والشرعية الأممية.
إنَّ مجلس الأمن، بتشكيله الحالي وطريقة اتخاذ القرار فيه، لا يعبّر عن موازين القوة الفعلية في النظام الدولي، وعن كيفية مواجهة مصادر التهديد المستحدثة، وبالتالي فقد مصداقيته تماماً، ولم يعد قادراً على إعادة الانضباط في العلاقات الدولية التي تمرّ حالياً بحالة غير مسبوقة من الفوضى والارتباك.