الحبيب الأسود يكتب:
نذر المواجهة تعود إلى ليبيا.. والبداية من النفط
تتوالى نذر المواجهة في غرب ليبيا نتيجة إصرار رئيس الحكومة المؤقتة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة على التمسك بالكرسي مهما كان الثمن، وفي ظل استمرار اللعبة الدولية التي تقودها عواصم غربية تبيّن بوضوح أنها لا تريد حلّا للأزمة القائمة منذ العام 2011 وإنما تطمح فقط إلى وضع يدها على الجغرافيا والثروة والصفقات، وهو لا يتحقق عادة إلا بتابع مستعد للتفريط في كل شيء من أجل البقاء في الحكم.
السبت الماضي قالت ميليشيات من نالوت إنها منعت ميليشيات من الزنتان من الوصول إلى معبر وازن المشترك مع تونس لتأمين دخول رئيس الحكومة الجديدة فتحي باشاغا، ومباشرة استقبل الدبيبة عميد بلدية نالوت وشكره على هذا الموقف، ثم دعا السفير التونسي إلى مكتبه ليتطرق معه إلى موضوع نشاط باشاغا من العاصمة تونس حيث يبدو وكأنه يتزعم حكومة في المهجر، كما تحدث عن ضرورة التنسيق مع السلطات التونسية في ما يتعلق بالمعابر الحدودية المشتركة، وكأنه يوجه رسالة يطالب من خلالها الرئيس قيس سعيد بالحؤول دون وصول باشاغا إلى المناطق الحدودية.
اللافت أن مكتب الدبيبة لم يشر إلى التهديدات التي أطلقها إرهابي تونسي الأسبوع الماضي ضد سلطات بلاده، انطلاقا من مدينة مصراتة حيث يقيم وينشط ضمن ميليشيات موالية للحكومة المنتهية ولايتها ولمفتيها المعزول من قبل البرلمان منذ نوفمبر 2014، ولم يسع لتفسير حالة البرود التي تعاني منها العلاقات بين البلدين بسبب مواقفه التي تخفي الكثير من المساندة المبطنة لجماعة الإخوان في المنطقة ككل، ولاسيما في مصر وتونس، فجزء مهم من التحالفات التي دفعت به إلى السلطة في فبراير 2021 وتحرضه اليوم على الامتناع عن التخلي عنها، كانت مع الإسلاميين بمختلف تفرعاتهم.
خلال الأيام الماضية تحولت طرابلس إلى ساحة لاستعراض العضلات من قبل قوات ما يسمى بدعم الدستور والانتخابات، وهي تتمثل في تحالف ميليشياوي من طرابلس ومصراتة والزاوية ومناطق الأمازيغ وبعض المدن الأخرى، تم تجييشه بغرض قطع الطريق أمام أي سلطة شرعية قد تأتي لتولي الحكم بدلا عن الحكومة المنتهية ولايتها سواء اليوم، أو بعد شهر، أو بعد عام أو خمسة، فالمهندس الدبيبة أقرّ العزم على وضع يده على مراكز القرار، وهو يدرك كيف يلاعب الميليشيات وأصحاب المصالح، وكيف يراقص العواصم الغربية ويعطيها ما تحتاج إليه من الوعود والصفقات والمواقف والتنازلات، ولديه مستشارون كثر سواء في الداخل الليبي أو في الخارج يساعدونه بالأفكار والمقترحات والمخططات، ويؤكدون له بين الحين والآخر أن التمسك بحكم بلد ثري كليبيا لا يحتاج إلا إلى إتقان اللعبة الخارجية، وأن المطلوب فقط أن يكون قادرا على ضمان التحكم في مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمارات الخارجية.
الوضع في ليبيا اليوم صعب وينذر بعواقب وخيمة، وأبرز دوافعه أن الدبيبة لن يتخلى عن الحكم بسهولة، وهو مدعوم من قبل الميليشيات الرافضة للمصالحة الوطنية
بالأمس، انتشر شريط فيديو للدبيبة وهو يرأس اجتماعا مهما، وعندما رنّ هاتفه مرتين التفت للحضور قائلا “معذرة، أستطيع تجاهل الجميع إلا الصديق” في إشارة إلى محافظ مصرف ليبيا المركزي الذي وضع جميع صلاحياته وإمكانياته في خدمة ما سميت بحكومة الوحدة الوطنية قد تتحول إلى حكومة الانقسام، ولم يكن ذلك من فراغ وإنما بضمانات من عاصمتين غربيتين على الأقل، وبدعم من تركيا وقطر، فالقرار الحقيقي في ليبيا ليس وطنيّا وإنما هو وارد من خارج البلاد، وعندما وجه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح في مارس الماضي رسالة إلى رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله طالبه فيها بعدم تحويل إيرادات النفط إلى حساب الإيرادات العامة والاحتفاظ بها في حساب مصرف ليبيا الخارجي، إلى حين اعتماد قانون الميزانية العامة وصدور قرار بالصرف من قبل البرلمان، كان البعض قد اعتبر في تلك الخطوة ضغطا على الحكومة التي تمارس مهامها دون شرعية برلمانية لكي تعترف بالأمر الواقع وتسلم مقاليد السلطة للحكومة الجديدة، لكن الصورة كانت مختلفة تماما، فقد تم منذ أيام تحويل مبلغ ستة مليارات دولار إلى حكومة الدبيبة، وبذلك تجاهل صنع الله رسالة صالح، ليس حبا في الحكومة، ولكن تنفيذا لأوامر من جهات خارجية معروفة تقف وراء الإدارة الفعلية لمؤسسات الثروة والمال في ليبيا.
تلك الوقائع وغيرها أدت إلى تحولات في المواقف الميدانية، فقد قام ناشطون بإغلاق حقل الفيل في حوض مرزق بالجنوب، وميناء الزويتينة النفطي بالمنطقة الشرقية، وهناك ترجيحات بأن يتم خلال الأيام القادمة المزيد من الإغلاقات في الحقول والموانئ النفطية، وهو ما يذكرنا بما حدث في يناير 2020 عندما تم إغلاق منابع الثروة وموانئ التصدير، واستمر ذلك لمدة ثمانية أشهر، إلى أن وجد نائب رئيس المجلس الرئاسي آنذاك أحمد معيتيق منفذا للتفاوض مع ممثلين عن قيادة الجيش في موسكو، وتم التوصل بدعم روسي إلى اتفاق بفتح أبواب الإنتاج والتصدير على أن يتم تجميد الأموال في حساب خارجي إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة، والتي صادف أن كانت حكومة الدبيبة التي يبدو أنها تواجه نفس المأزق حاليا.
الليبيون يتجهون لإغلاق النفط لأسباب مختلفة سبق وأن تطرقت إليها أطراف عدة، آخرها وفد قيادة الجيش إلى اللجنة العسكرية المشتركة، فأصحاب مناطق الثروة محرومون من إيراداتها، والجيش الذي يؤمنها ممنوع من صرف رواتب منتسبيه، بينما تذهب الأموال إلى القوات الأجنبية والمرتزقة والميليشيات والجماعات المسلحة وأمراء الحرب، ثم إن الخدمات مفقودة والأسعار ملتهبة والأموال منهوبة والسيادة مستلبة والفساد مهيمن والشعب ممنوع من التعبير عن إرادته، فقط لكي لا يختار من يراه صالحا للحكم ويتعارض خياره مع مصالح القوى المسيطرة داخليا وخارجيا.
الوضع في ليبيا اليوم صعب وينذر بعواقب وخيمة، وأبرز دوافعه أن الدبيبة لن يتخلى عن الحكم بسهولة، وهو مدعوم من قبل الميليشيات الرافضة للمصالحة الوطنية ولتوحيد المؤسسة العسكرية، والتي ترى أن مصيرها رهين بقاء الوضع على ما هو عليه، ومن قبل الإسلاميين الذين يعتبرون أن تقسيم البلاد أهون عليهم من التراجع عن مخططهم للتغلغل في مفاصل الدولة والتحكم في مرجعياتها وقراراتها، ومن قبل أثرياء الاعتمادات ولصوص المال العام وعرابي الفساد في الداخل والخارج، ممن يعتبرون الحكومة الحالية غطاء واسعا لشرعنة السلب والنهب والتلاعب بثروة الليبيين، وهي تنطلق في ذلك من تجارب عريقة لا أحد يستطيع تجاهلها، وما رواه الإثنين فيصل قرقاب رئيس مجلس إدارة الشركة الليبية للبريد والاتصالات وتقنية المعلومات منذ 2013، ليس سوى غيض من فيض وقطرة من بحر الفساد الذي لا قرار له.