محمد خلفان يكتب:
عودة جديدة للنفط
من مفارقات السياسة الدولية في زماننا، أن نشهد تقييمين مهمين لمكانة النفط في فترة قصيرة. فمنذ عقد تقريباً أو أكثر بقليل، كان الحديث يملأ الساحة الثقافية في مؤتمرات الطاقة المنتشرة في العالم، أنه متجه نحو التقليل من الاعتماد على النفط كسلعة حيوية، ولكن اليوم، وفي هذه اللحظات، لا يخلو اجتماع سياسي دون الحديث عن هذه السلعة، وتأثيراتها في قرارات الحرب والاقتصاد، وحتى الحياة اليومية للشعوب في العالم.
بلا شك، لا بد أن تدهشنا مثل هذه المواقف كمراقبين، وكأبناء منطقة باتت هذه الأيام (قبلة) للسياسيين والاستراتيجيين الدوليين، حيث نجد ازدحاماً في تصريحات السياسيين، وفي الزيارات الدبلوماسية، من أجل إقناع الدول النفطية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، من أجل زيادة الإنتاج لسد حاجة السوق العالمية والغربية بشكل خاص، مع أنها كانت هي أكثر من كانت تدعي عن قرب الاستغناء عن هذه السلعة، ومن هذه المنطقة تحديداً.
إذا كانت الأزمة الأوكرانية فرضت على الولايات المتحدة، استخدام النفط كأداة لعقوباتها على روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، فهي أصابت الدول الأوروبية في مقتل، خاصة بعد أن اشترط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شراء نفط بلاده بالروبل الروسي، فخلق أزمة بين المستفيدين من رخص سعره، دفعت ببعض الرؤساء الأوروبيين إلى إعادة حساباتهم السياسية مع روسيا، أما محاولة «تسييس» النفط من دول عظمى، مع أن هذا الأمر تم القفز عليه منذ أزمة السبعينيات، بعد الحرب العربية مع إسرائيل، فصار الاتفاق إبعاد الطاقة من السياسة، وتحييدها من الأزمات، فجاء الأمر وكأن هذه الدول هي فقط من يقرر وضع النفط من السياسة، وليس أعضاء منظمة أوبك.
ما كشفته لنا الأزمة الأوكرانية-الروسية، أن القيمة الاقتصادية والسياسية للنفط، أعلى وأكبر من كل التصريحات التي يمكن أن تقال على المدى المنظور، في أهمية هذه السلعة، وأن العالم لا يزال مرتهناً لها لفترة زمنية قادمة، وأن أهميتها الاستراتيجية في إدارة لعبة المصالح باقية، وما زالت تغري الكثيرين من السياسيين في العالم.
لقد عشنا زمناً كان المخططون الغربيون ينشرون لنا كلاماً، بأن النفط الخليجي تراجعت أهميته الاستراتيجية، في مقابل الاستكشافات الجديدة والكثيرة في أماكن أخرى من العالم، وكذلك بسبب تعدد بدائل الطاقة في العالم، لدرجة ظننا أننا قد نصبح من الليل، نجد أن النفط لم يعد أحد يشتريه، لكن تفاجأ الجميع أن أسعار النفط ارتفعت بدرجة ذكرتنا بوفرة سبعينيات القرن الماضي، والتي على أساسها قامت المشاريع التنموية في العديد من دول العالم، بل إن المؤشر الحالي لتوجهات أسعار النفط، يشير إلى احتمالات زيادتها، بدرجة أن المواطنين العاديين في دول العالم، تأثروا بارتفاعه، وبعدها وجدنا اللغة السياسية للمسؤولين الغربيين تغيرت، بدأ فيها الهدوء والاعتراف بأنهم ما زالوا بحاجة لهذه السلعة المنتشرة في الشرق الأوسط، وفي الدول الخليجية تحديداً.
الحاصل أن روسيا وظفت النفط والغاز سياسياً، مع أنها ادّعت في البداية (وأجادت في الادعاء)، بأنها بريئة من التوظيف السياسي، فكان الأرخص والأسهل في النقل إلى أوروبا، إلى أن جاءت الأزمة الحالية، لتوضح للغرب أن المسألة ليست بتلك السهولة في تطبيق العقوبات عليها، كما بينت للدول العربية، أهمية (إدارة الندرة) لأهم سلعة عالمية، وكيفية استغلالها في خدمة الأهداف السياسية. فاليوم، بالإمكان الحديث عن العجز العالمي في تحقيق أمن الطاقة، وهو واحد من أهم المجالات التي يحاول العالم الحفاظ على استقراره، وأن المنتجين للنفط، هم من لديهم القدرة على استقرار السوق العالمي أو تهديده.
أخلص إلى أن التحرر الاقتصادي الجديد للنفط، هو حلقة جديدة ضمن حلقات عديدة، كشفتها هذه الحرب، وأعادت إحياء مكانة النفط في الاستراتيجية العالمية. وبالتالي، إذا كنا نتأسف على المأساة الإنسانية للحرب، وتداعياتها السلبية على المجتمع الدولي، فإننا لا ننكر أن هذه الحرب، أعطتنا قراءة مستقبلية مغايرة، لمكانة النفط في السياسة الدولية.