د. علي محمد فخرو يكتب:
بعض من إشكالات الممارسة السياسية
لقد بينّا في مقالة منذ أسبوعين، مظاهر هجمة شرسة لإبعاد شباب وشابات الأمة عن السياسة، ثم بينّا في مقالة الأسبوع الماضي أسباب الأهمية القصوى لممارسة السياسة والتي من دونها تدخل المجتمعات والدول في كل أنواع التيه والفوضى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
يبقى أن نجيب عن التساؤل الذي يطرح نفسه في الحال: عن أي نوع من الممارسة السياسية نتحدث؟ هنا يجب أن نعود إلى مرجعية فلسفة السياسة التي أرادت أن تكون فكراً وممارسة عقلانية وقيمية وأخلاقية، بدلاً من ضبابية وجموح الممارسة العاطفية أو الانحيازات والولاءات والطاعات الوهمية العمياء.
لكن الفلاسفة لم يحققوا نجاحاً تاماً في فصل العقلاني عن العاطفي والولائي الأعمى. أفضل تأكيد لهذه الظاهرة نراه مثلاً في المشهد اللبناني. هناك تخرج التظاهرات الجماهيرية الصاخبة ضد كل الممارسات الخاطئة والفاسدة في الحياة السياسية. لكن القسم الأكبر من تلك الجموع تنسى كل ذلك ، وتصوّت في كل انتخابات برلمانية على أسس دينية أو مذهبية أو مناطقية أو شخصانية، من دون أي اعتبار للبرامج والسياسات المطروحة، ومن دون أي تقييم لتاريخ وإنجازات وفضائح الذين يعيدون انتخابهم المرة تلو المرة. العقلانية أثناء الهياج والاحتجاج، والعاطفة والتعّود الكسول أثناء الانتخابات.
ثم هناك حاجة إلى أن يعّود الشباب والشابات أنفسهم على استعمال منطق وعقلانية الفلسفة السياسية، في تقييم دوري لانتماءاتهم السياسية ولعضويتهم في المؤسسات السياسية، وذلك على ضوء دروس التاريخ والحقائق والمستجدات. وكنتيجة لذلك فقط ينتقلون لارتباطات الحب والولاءات والثقة في انتماءاتهم وأحزابهم وجمعياتهم، أو ينتقلون إلى انتماءات أو مؤسسات سياسية جديدة. هذه الممارسة الفكرية النقدية العقلانية والمراجعة العاطفية المتزنة الناضجة، هي الضمان لتنقية الحياة السياسية العربية مما علق بها من عادات خاطئة وممارسات طفولية وانفجارات مجنونة سابقة، وإلا فإن الحياة السياسية تنتهي ببقائها في جمود وركود ممل وعاجز ومكرّه، للانخراط المسؤول في السياسة.
فكم من حزب نادى بالديموقراطية وهو غير ديموقراطي، وكم من قائد نادى بتبادل السلطة في الحكم، وهو مؤبد في رئاسة وإدارة حزبه.
لكن دعنا نذكّر بأن هناك فرقاً كبيراً بين ما ندعو إليه هنا من مراجعات، وبين الردات السياسية الانتهازية الطفولية الشخصية التي يمارسها بعض المثقفين العرب بين الحين والآخر، إما لتعبهم من النضال، وإما لدخولهم في حياة الزبونية المدفوعة الأجر من بعض قوى الخارج أو الداخل. والأمثلة على ذلك كثيرة في السنوات الأخيرة مع الأسف.
وأخيراً ، يحتاج القادة الشباب الجدد، إلى أن يعوا بعمق أن الأسس التي تقوم عليها ممارسة السياسة ملأى بالغموض، وأحياناً بالتناقضات. دعنا نذكّر بإشكالية الغاية والوسيلة في العمل السياسي. فالمدارس البرغماتية والنفعية، ومنها النيوليبرالية الجديدة، وفي جوهرها المبادئ المكيافيلية الشهيرة، لا يهمها إلا النتيجة (أي الوصول إلى الغاية) حتى ولو كانت وسائل الوصول إلى ذلك مملوءة بالخروج على القيم والأخلاق. يتمثل طرح هذا الموضوع في أيامنا الحالية في مقارنة نجاح نظام الحزب الواحد في الصين في إخراج سبعمئة مليون صيني من الفقر، وفشل نظام التعددية الحزبية في الغرب الديموقراطي في القضاء على الفقر في مجتمعاتها. موضوع أسس الحكم في الحياة السياسية عاد للأخذ والرد من جديد.
الأمر نفسه ينطبق على إشكالية الحرية والمساواة. كلاهما مهمان للغاية في الفكر السياسي لكن المساواة المطلوبة، خصوصاً في موضوع التوزيع العادل للثروة وحقوق الطبقة العاملة وضبط جموح تراكم الثروات في أيادي القلة. لا يمكن أن نصل إليها دون ضبط جموح الحرية بالقوانين وأجهزة القضاء العادل. الأسئلة في هذا الموضوع لا حصر لها.
نخلص من كل ذلك بالأهمية القصوى، لأن تكون للشابات والشباب العرب الراغبين في الانخراط في العمل السياسي، وعلى الأخص قياداتهم، أن تكون لديهم خلفية تعي بعمق كل إشكاليات والتزامات العمل السياسي، فلسفة وتاريخاً وممارسة وتناقضات، حتى نتجنب الكثير من الأخطاء والخطايا التي ارتكبت خلال القرن الماضي برمته وأوصلتنا، نحن العرب، إلى ما وصلنا إليه.