د. عيدروس النقيب يكتب:
مخرجات مشاورات الرياض، هل ستحل الأزمة اليمنية؟ (1-4)
النظرة السطحية التي تكرست على مدى أكثر من ثماني سنوات من الحرب بين الشرعية اليمنية والتحالف العربي الداعم لها وبين الجماعة الحوثية الانقلابية التي تخلصت من شريكها الرئيسي في الانقلاب (مؤتمر الرئيس صالح) بالتصفية الجسدية لزعيم هذا الحليف. . . هذه النظرية السطحية حصرت الأزمة اليمنية بالصراع بين الشرعية والانقلابيين، وتجاهلت ركنا اساسيا ربما يمثل الجذر الأساسي للازمة وهو شعب الجنوب وقضيته العادلة.
هذه النظرة انتجت كل الخيبات والهزائم التي ألحقت بالشرعية والخسائر الكبيرة المادية والمعنوية التي تكبدها التحالف العربي.
وبفعل هذه النظرة ظل الأشقاء في التحالف العربي يراهنون على إمكانية جمع ممثلي الحوثيين وممثلي الشرعية لبناء اتفاق ينهي الحرب ويعيد السلام ويطبع الأوضاع في اليمن، وبذلك (كما يرى راسمو هذه السياسة) ستنتهي المشكلة ويعود اليمن إلى الصف العربي ويتوقف هدير المدافع وقصف الطيران وأزيز الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة.
لكن ذلك لم يحصل ولن يحصل، ببساطة لأن الشرعية لا ترغب في العودة إلى صنعاء والحوثيون يمضون على أجندة ابعد من مجرد سيطرتهم على مساحة الجمهورية العربية اليمنية.
قد تبدو الامور مختلفة عند التوقف إزاء مخرجات مشاورات الرياض وما ترافق معها من إعادة هيكلة لرأس الشرعية، أعني مؤسسة الرئاسة اليمنية، عما كانت عليه الامور عند صوغ المبادرة ابخليجية ثم مخرجات حوار صنعاء، لكن الاختلاف لا يكون إلا من حيث الشكل وليس من حيث المضمون فقد بقي الوضع عبارة عن إعادة صياغة كوكتيل من التوجهات السياسية لا يجمعها إلا ارتباطها بالتحالف العربي وعداؤها المتفاوت للجماعة الحوثية لكن ما يفرق بينها اكثر مما يجمعها عند النظر إلى ما يريده كل طرف في المستقبل.
لست من تلاميذ المدرسة التشاؤمية، لكن معايشتي لمسارات العملية السياسية في اليمن منذ العام ٢٠٠٣م بينت لي أن النخبة (أو النخب) السياسية اليمنية تعتمد في تعاملها مع بعضها على التكتيكات المخادعة، والتحالفات المؤقتة التي تقوم على التأويلات المضمرة للمعاني وليس المضامين المعلنة للنصوص.
لم تتعرض المبادرة الخليجية للقضية الجنوبية، وجاء مؤتمر حوار صنعاء الذي أغرق في الحديث عن تلك القضية لاينتهي بغزو مدمر للجنوب من قبل الذين تغنوا بالقضية الجنوبية حد الثمالة، وشهد الجنوب في غزو ٢٠١٥ دمارا كان مكملا للدمار الذي تعرض له في العام ١٩٩٤م.
مخرجات مشاورات الرياض هل ستحل الأزمة اليمنية؟؟(2)
ومثلما تجاهلت المبادرة الخليجية قضية الجنوب فإن القرارات الدولية لم تقل شيئا عن هذه القضية لأن ممثلي اليمن في المنظمات الدولية كانوا دوما ممثلي الطرف المنتصر على الجنوب.
وأوشكت مخرجات مشاورات الرياض أن تدفن قضية الجنوب بين ركام النفايات المتعددة، لولا الجهود العنودة والمواقف الصلبة التي ابداها ممثلو المجلس الانتقالي في لجان التشاور والتي خرجت أخيرا بتلك الفقرة اليتيمة، التي حتى رئيس الوزراء استغرب من وجودها ثم تلكأ في تلاوتها وهو يقرأ نص البيان الختامي للمشاورات.
الفقرة التي نصت على وضع إطار لقضية شعب الجنوب في مشاورات الحل النهائي، وهذه الفقرة في نظري لا تساوي قيمة الحبر الذي طبعت به لأنها لا تتحدث عن حل القضية ولكن تتحدث وضع إطار وهو كلام ليس له معنى ملموس، واتعجب من الجنوبيين الذين يبتهجون بهذه العبارة وكأنها ستعيد للمنهوبين املاكهم وللشهداء أرواحهم وللمقصيين مكانتهم.
كما إن الفقرة تتحدث عن حل نهائي هو في علم الغيب، وقد لا ياتي لأن طرفا رئيسيا في الصراع (اعني الشرعية اليمنية) لا ترغب في خوض معركة الحسم مع الطرف الانقلابي واستعادة العاصمة صنعاء، وكل همها هو مواصلة الهيمنة على موارد الجنوب، والأهم من هذا أن الطرف الشمالي الاقوى (الحوثيين) لا يعترف بمشاورات الرياض ولا بالنتائج التي تمخضت عنها وبالتالي فإن هذه الفقرة لا تبيع للجنوبيين إلا وهما لا يسمن ولا يغني من جوع.
وكل ما قلناه عن هذه الفقرة لا يقلل من الجهد الصادق والمثمر الذي بذله ممثلو الجنوب في لجان التشاور، لكن الأهم اليوم هل يستطيع المحاور الجنوبي توظيف مخرجات مشاورات الرياض لخدمة الحل العادل للقضية الجنوبية وإنصاف أهل الجنوب!!.
مخرجات مشاورات الرياض هل ستحل الأزمة اليمنية(3)
هناك مؤشران يقولون أن النخبة السياسية الشمالية في غالبيتها، ما تزال تتعامل مع الجنوب على إنه ذلك الفرع الذي حاول التمرد على الأصل وإن مشاورات الرياض جاءت لتعيده إلى أصله، باعتبار هذه النخب تمثل في الغالب الأعم الطرف المنتصر والجنوب هو الطرف المهزوم منذ 7/7/1994م.
وينسى هؤلاء أنهم إذا كانوا قد دخلوا الجنوب في العام 1994م غزاةً فاتحينَ فإنهم يأتون اليوم هاربين بعد الهزيمة النكراء التي تلقوها على أيدي أقلية من الشباب المتهور والمغرور والمتمرس على القتال طوال فترات حروب صعدة المتطاولة، أقول ينسون أنهم اليوم لم يعودوا كما كانوا آنئذٍ وإنما جاءوا يبحثون عن بقعة لعقد اجتماعاتهم وتفعيل هيئاتهم.
هذان المؤشرات هما:
1. الضجة التي آثارها نص اليمين الدستوري الذي تلاه الأخ اللواء عيدروس الزبيدي كعضو في مجلس القيادة الرئاسي أمام مجلس النواب، حيث ضجت القاعة بالاعتراض على عدم تعرضه لمفردة “الجمهوري” بعد مفردة “النظام”، وحذفه مفردة “وحدة” قبل مفردة “الوطن”، وجاءت الضجة الإعلامية ومهرجان العويل من القنوات الفضائية التلفييزيونية التي تدعي دفاعها عن الشرعية لتضيف مزيدا من النائحين إلى مهرجان النواح الذي تسبب به يمين اللواء الزبيدي
والحقيقة أن الأخ رئيس المجلس الانتقالي قد نجح في اختبار ثقافة وموضوعية وعقلانية وأهلية الطبقة السياسية الشمالية التي تدعي الدفاع عن الوحدة الوطنية وهي من مزقت الوطن إرباً إربا منذ العام 1994م، وتدعي الدفاع عن النظام الجمهوري وهي من سلمت الجمهورية للسلالة الحوثية وهرب أفرادها بجلودهم باحثين عن الأمان خوفاً من الانقلاب والانقلابيين، وواصلوا تسليم المحافظات التي حررها أهلها للجماعة الحوثية في العام 2020م.
2. طلب الاعتذار للجنوب والجنوبيين عن حرب 1994م وعن فتوى إباحة دمائهم وأرواحهم وأملاكهم الصادرة عن عبد الوهاب الديلمي عبر إذاعة صنعاء، وكذا الاعتذار عن عمليات القتل الجماعي لشباب ثورة الحراك السلمي الجنوبي جوال الفترة 2007-2014م على أيدي قوات الأمن الرسمية، هذا الطلب الذي كان كاتب هذه السطور قد اقترحه أمام مجلس النواب والذي قوبل بالاعتراض والاستهزاء والسخرية والتجاهل والاتهام بالمزايدة والابتزاز.
ردود افعال الأشقاء في النخبة السياسية الشمالية إزاء هذين المؤشرين بينت أنهم لا يفسرون القضية الجنوبية إلا تفسيراً مخادعاً لا علاقة بالمضمون الحقيقي لهذه القضية وما تعبر عنه بالنسبة للسواد الأعظم من أبناء الجنوب.
لقد بينت ردود أفعال الزملاء ممثلي النخبة السياسية الشمالية، ومعهم بعض المتعصبين الحزبيين الجنوبيين (وهم أقلية لا تذكر) بينت أن الزملاء ما يزالون يتعاملون مع الجنوب إلا كمهزوم وهم المنتصرون عليه، وأنهم عادوا إلى الجنوب فاتحين كما دخلوه في العام ١٩٩٤م لا هاربين يبحثون ملاذ يعيدون فيه تفعيل مؤسساتهم المعطلة منذ أحد عشر عاماً.
همس اليراع
مخرجات مشاورات الرياض هل ستحل الازمة اليمنية؟؟ ( 4)
قبل الاسترسال في مناقشة اللوحة التي عقدت في ظلها مشاورات الرياض اليمنية- اليمنية، وما جاءت به من مخرجات، لا بد من التعرض لأمرين مهمين هما.
١. إن حديثنا هنا وما قد يتضمن من لغة نقدية، لا يعني التقليل من جهود الأشقاء في مجلس التعاون الخليجي ولا التشكيك في حسن نواياهم تجاه البحث عن حلول عملية جادة للازمة اليمنية.
٢. كما إن ما نتناوله هنا لا يستنقص من الجهود الكبيرة التي بذلها المحاورون الجنوبيون في ظل اجتياح أغلبية كبيرة من ممثلي النخب السياسية الشمالية التي دخلت بمسميات متعددة رغم أن معظمها يتفق حول كل العناوين والقضايا والمعالجات والحلول التي تم اتخاذها.
وهنا من المهم الإشارة إلى أن تنوع الطيف السياسي المشارك في المشاورات قد انعكس في تعدد وتباين الأولويات، خصوصاً عند الحديث عن ثنائية الجنوب والشمال.
فالجنوبيون الذين آمضوا قرابة عقدين وهم يرفعون شعار “النضال السلمي من أجل استعادة الدولة الجنوبية”، لم يغب عن أذهانهم هذا الشعار حتى وهم يتعهدون بمشاركة الأشقاء الشماليين من أجل إنهاء الانقلاب واستعادة دولتهم وعاصمتهم من تحت سلطة الانقلاب الغاشم، وقد أكدوا هذا منذ العام ٢٠١٥م وما يزالون يبرهنون عليه في مختلف الجبهات ويتصدون للعدوان الحوثي دون أن يتنازلوا عن شبر واحد من الأرض التي دفعوا ضريبة تحريرها ارواح ودماء الآلاف من خيرة شبابهم.
وهكذا فإنه وبعد أولوية تفعيل الخدمات والتخفيف على مواطني الجنوب من حصار الخدمات وحرب التجويع التي مورست عليهم على مدى السنوات المنصرمة، فإن الاولوية القصوى للجنوبيين هي العمل على تأمين ظروف استعادة الدولة الجنوبية من خلال الحوار الندي السلمي الثنائي (الجنوبي- الشمالي)، وهذا ما لا تقبل النخب الشمالية في استيعابه أو حتى التفكير فيه.
بينما تتمثل ملامح الاولوية القصوى بالنسبة للإخوة الشماليين بإعادة دولة ١٩٩٤م إلى عدن من خلال مخرجات مشاورات الرياض، مع مواصلة التسويف والمماطلة في ما يتعلق بخوض معركة تحرير صنعاء، كما اعتدنا معهم على مدى ٨ سنوات.
الإخوة الشماليون لا يختلفون عند ما يتعلق الأمر بالجنوب، لكن لديهم اجنداتهم المختلفة.
فالتيارات الدينية تريد إعادة بناء الدولة الإسلامية في الجنوب بعد ان سلب منها الحوثيون هذه الفرصة وفرضوا نموذجهم الديني البائس في الشمال.
وتيارات المؤتمر بتفرعاتها مع حلفائها تخطط لإعادة بناء دولة آل عفاش في الجنوب، بعد أن اخفقت في بنائها من خلال التحالف مع الحوثي، واستحواذ الأخير على كامل الكعكة في صنعاء.
وقد يتحالف الطرفان لينتجا دولة ١٩٩٤م، التي صنعاها بالغزو والاجتياح وضم الجنوب.
وفي ظل هذه اللوحة المعقدة يبدو مفهوماً ذلك التشاؤم من قبل الكثيرين الذين يتشككون في وفاء هذا التحالف (المؤتمري-الديني) بتعهداته تجاه الجنوب التي يعتمد فيها على العبارات الهلامية، كما ورد على لسان رئيس الوزراء عند قراءته للبيان الختامي للمشاورات.
والسؤال الآن هو: في ظل هذه اللوحة المعقدة هل يمكن الرهان على هذه المخرجات أن تؤدي إلى حل الأزمة اليمنية، ووقف الحرب وإحلال السلام؟
ناهيك عن حل القضية الجنوبية وفقاً لتطلعات الشعب الجنوبي، بعيداً عن ثنائيات الفرع والاصل، المنتصر والمهزوم، المتبوع والتابع؟
ذلك ما يمكن تناوله في وقفة قادمة.
وللحديث بقية.