واثق الجابري يكتب لـ(اليوم الثامن):
عندما تنزع ذي قار ثوبها
استغربت الأوساط الشعبية والحكومية، حادثة استشهاد ضابط رفيع، إثْرَ فض نزاع عشائري، وسجلت محافظة ذي قار جملة من الحوادث، يراها أهل المحافظة حوادث دخلية على محافظتهم.
حادثة أخرى سجلتها المحافظة، مقتل رجل دين، وقف وسيطاً بين عشيرتين، وأخرى اغتيال رجل بعد أن برّأته المحكمة، الأول كان سيداً هاشمياً، حيث كانت مدن المحافظة، تقدم الهاشمي وإن صغر عمره الى مجالسها، والثاني قُتل وهو بيد القوات الأمنية!
نكاد لا نختلف إن قلنا إن ذي قار واحدة من أكثر المحافظات العراقية، تقدماً في مجالات الثقافة والأدب والفنون والقيم المجتمعية، وما تزال تحتفظ بتقاليدها وعاداتها، وتعطيها هوية متميزة، ترسم في دواوينها هوية ثقافية حاضرة في جلساتها الخاصة والعامة، وما تزال مقاهي ( الونين )* في سوق الشيوخ تطرب وتحزن بألم موسيقاها أوتار القلوب، وبحة الحناجر التي قطّعها الصراخ من الألم، الذي يضغط على الأعماق لا الأطراف فحسب، وما تزال ذي قار ملتقى الأحزاب والحركات الفكرية، ولا أحد من أبنائها لا يعرف أنها أصل الحضارة، وأنها سومر ومسقط رأس الكون.
تعني ذي قار الناصرية، الفن والشعر والأدب والقيم، والحزن والألم الذي يعبر عنه بجلد الذات وتحمل الويلات، وبأصوات وكلمات حزينة لا تجرح أحداً، تخاطب وتعاتب وتتألم وتتضور، وتحول الألم الى حكاية تحكى وقصة تروى ومثل يُقتدى، تجعل من الألم لوحة جميلة وإن كانت حزينة، تخاطب الفكر وتترك الأثر الجميل، ولا تتعدى حدود ما أُخذ منها إلاّ بالعتب الجميل والقول القليل، الذي يحافظ على نسيج المجتمع وإن كان بين الدفتين عويل.
ذي قار منذ أن كانت والى أن وصلت، مدينة للشهداء والضحايا والمسحوقين، مدينة شبابها حطب، وشيوخها أدب، ومنها تنطلق الثورات التي تبني بلاداً قبل أن يفكر أهلها بالمكسب، ذي قار هذا ثوبها وصفاتها وناسها، لكنها كغيرها هناك من فكر أن يخلع ثيابها، وأن يلبسها ثوب الابتعاد عن القانون والأعراف والأدب، وفي ذي قار ظواهر لا تألفها منذ عامين، حين يحرق شباب منها دائرة حكومية، للمطالبة بإنجاز دائرة متوقفة بسبب الفساد، وفيها من يدعون المشيخة والعشائرية ما ندر، مَنْ يمارسون ما يخالف عاداتها وتقالديها وأعرافها، فيها أصبح يجوب الشوارع من لا يحترم القانون ولا الدولة ولا حقوق المصالح العامة.
ثياب الناصرية بالحضارة والفن والأدب والثقافة والعشائر الأصيلة، هي مفاهيم لأغلبية ساحقة من سكانها، وعندما نتحدث عن ما ذكرنا، فإن لغتها الحوار والفكر، وتحويل حتى الألم الى صورة ولوحة جميلة، لا تؤمن بفرض القوة، ولا قوة عليها من خارج قيمها، ولا ثوب على مقاسها إلاّ كما هي، ومن أهوارها القاسية يخرج صوت شجي، ومن تضحياتها الكبيرة منجز لا يضاهيه منجز، ذي قار ثوب الحضارة والثقافة والأدب الذي لبسه العراق برمته، ذي قار لا يمكن أن تخلع ثوبها وتلبس ما يخالف الكلمة الطيبة التي تقابل حتى الإساءة.
الناصرية بأصولها وجذورها وقيمها، لا تقبل أن يقتل من جاء لتطبيق القانون، ولا تجاوز على قانون تحت ذرائع تفقدها سماتها التي تميزت بها، ليست فقط ذي قار في طائلة التجاوز على القانون، بل يومياَ تسجل مشاهد صارخة في مدن مختلفة، للقانون والقيم والأعراف، ولابد أن تقف صارخة بوجهها.